الحرف السيار بين حدائق الزهور /على القديمى

سبت, 23/02/2019 - 13:22

 

شيخنا محمد بتار ولد الطلبة العلوي الشنقيطي  متفنن متقن يستحضر كثيرا من المتون عن ظهر قلب  فقيه منطقي   خضعت له رقاب الفنون يبيع ويشتري فيها كما شاء  رقا  لا تمنعه الدساتير الوضعية 
له بحوث منيفة  وأنظام  عذبة  سلسة تذكرك بأنظام ابن مالك والمقري نظم قطر  الندى ومتممة الآجرومية ولا زال في نظم أقرب المسالك يسره  الله ووهبه سدادا وقبولا 
سمعت شيخنا الحجة أباه يناديه مرات في مجلس الدرس  ب (محمد) وكأنه يشير إليه في شاهد من الشعر يصلح لمسألة نحوية أو بلاغية  

عشت معه خمسا من السنين في رحلتي الأولى إلى شنقيط  مع طرة ابن بونة  بقراءتي والفية البيان بقراءة  غيري وغيرها من علوم اللغة خصوصا  
يتمتع بروح طريفة ظريفة  مع حسن خلق صار   له سجية وشنشنة  وكما قيل :

يروع  ركانة ويذوب شوقا 
فما تدري أشيخ أم غلام

كم يظل جيش الشوق بقضه وقضيضه   منتظرا  قدومه  اذا ما ذهب إلى قريته  لقضاء أيام العيد أو مناسبة أخرى وأرسلت له ذات مرة بيتين وهو في قريته برينى بيتين :

أيا شيخنا المفضال أسعدك الدهر 
وعانق محياك التطلع والفخر 

واني لأهواكم وأهوى لقاءكم
كما يرتجي المهموم  أن يضحك الفجر 

فرد قايلا :
سلام على من جاء من عنده الشعر
ولله ما قد جاد منه به الفكر 

عسى الله أن يقضي لنا منه مجلسا 
تزاح به الغمى وينشرح الصدر 

 ذات مرة أحد الزملاء الأعزاء افتتح عنده  درسا في الخزرجية في فن العروض  وطلب منه ألا يشاركه أحد فيه وان يكون بينه وبين الشيخ سرا ولكن الشيخ لإيثاره تعميم النفع لم يرد هذا ولكنه أراد أن يعالج الأمر بطريقة ظريفة طريفة فعندما خرجنا من مسجد  المحظرة بعد انتهاء تدريسه  أشار له ذلك الزميل العزيز  إشارة خفية أن متى يكون الدرس  فالتفت مبتسما قائلا ارتجالا لي وللزميل العزيز الحبيب :

دروس لرشدي كن في غاية السر 
وما ذا الذي يدعوه للسر  لا أدري 

ثم قال يا علي إسماعيل رد على هذا البيت فقلت في الحال:

لعل الذي يدعوه للسر  انه 
يريد بها الإخلاص للواحد  البر
 
فأجاب الشيخ:
قد احسن إسماعيل ظنا بخله 
وتحسين ظن بالعباد من البر 

وحصل بعد هذا مقصود الشيخ واشتركت معه في الدرس ونحن في صفاء ومودة 

عندما أقلب صفحات طرة ابن بونة أجد كثيرا من الذكرى منها ما هو في  الورق مسطور ومنها  ما هو في الذاكرة محفور

فلم أزل أتذكر ظرافة الشيخ وهو يقف شارحا لأحد الطلاب في الطرة عند بيت البوني:
كصار آض حار راح قعدا
تحول استحال وارتد غدا 

قوله : قعد عند الفراء نحو أرهف شفرته حتى قعدت كأنها حربة فقال للتلميذ واستشهد الفراء هنا ببيتين يمليهما عليك  علي إسماعيل خارج المسجد  فتبعني التلميذ  حينما خرجت فقلت له نعم ذكر الفراء بيتين مستشهدا بهما وهما :

لا ينفع الجارية الخضاب 
ولا الوشاحان ولا الجلباب 

من غير أن تلتقي الأركاب 
ويقعد الأير له لعاب 

ومضى التلميذ ومضيت 

ولم أزل أتذكر  بداهة الشيخ  في درس الطرة إذ كنا ثلاثة نشترك في القراءة عليه فمر على التوكيد اللفظي وقال إنه قد أجمع أهل الأدب  انه لا يزيد على ثلاثة ثم أنشأ اتجالا :

ثلاثة ليست على الثلاثة 
زائدة يا أيها الثلاثة 

مؤكدات متنازعات 
ثالثهن المتضايفات

 ولم أزل أتذكر  لطف الشيخ معي وهو يعيش بمشاعره وأحاسيسه تجاه طلابه ولو كان  على خلاف طبيعة مجتمعهم ولكنه لا يكره أن يخاطب من هو مهاجر ببعض عادته تلطفا منه فلقد كنت أخبره بشوقي إلى إكمال شطر الدين ولو بثيب وهو يبتسم من أسلوب حديثي معه ولما دخلنا في الدرس ومر ذكر بيتين فيهما :

لا تنكحن عجوزا إن دعيت لها 
وارفع ثيابك عنها ممعنا هربا 
وإن أتوك وقالوا إنها نصف 
فإن أمثل نصفيها الذي ذهبا 

فلما وصل إلى قوله: وقالوا إنها نصف نظر  الي مبتسما ولم يفهم الحاضرون ماذا يريد وكما قيل :
حواجبنا تقضي الحوائج بيننا 
ونحن سكوت والهوى يتكلم 

عيناك قد دلتا عيني منك على 
أشياء لولاهما ما كنت ادريها

✍ علي القديمي