احسن عادات الليالى رجوعها /محمد ولد بتار الطلبة

أحد, 19/05/2019 - 02:28

 

فكرة نظمتها ضمن أبيات أتت عفو الخاطر منذ سنوات في محفل تأبيني للدكتور العالم المحقق الأديب البارع الأخ الكريم جمال بن الحسن رحمه الله تعالى، ولا شك أنني بالعودة إليها بعد هذه الفترة لا أجد في الحافظة عبارة تغني غناءها وتؤدي أداءها في هذا الموقف، فإذا كان الذاهب إلى الخلود الأبدي لا يعود؛ فإن الليالي تعود بأيامه الخالية وبذكرياته الخالدة، وكما يقول الفقهاء "الميت يحيى بذكره"
.
لم أدرك من حياة الدكتور جمال رحمه الله تعالى إلا أياما متفرقة رأيته فيها في قرية النباغية أو في أجوائها خارجا عنها في حالات نادرة، لكن امرءا في حجم هذا الرجل لا تتطلب الاستفادة منه صحبة بما في الكلمة من معنى. 
 كانت أول سانحة أراه فيها في منتصف العقد التاسع من القرن الميلادي المنصرم
حيث سمعته يرتجل أبياتا يمازح بها أحد رجال القرية لفت انتباهي ما فيها من تركيب عرفت فيما بعد أنه الجناس المركب الخالي من التكلف، وذلك قوله:

سعيد الاغظف الفتى حين قرى 
أضيافه طفق يدعو النقرى

ونحن لا نألف ذا النهج فلا 
جرم زرنا من دعانا الجفلى 

كان الدكتور جمال رحمه الله تعالى غاية في التواضع رغم ما يتمتع به من صيت ذائع ومن تقدير في مختلف أجيال المجتمع بما في ذلك طلبته في المدرسة العلياء للأساتذه الذين هم أكبر منه سنا بفارق كبير ، كان يجلس بيننا مجلس المتعلم في حلقات التكرار اليومي ويناقش ويبحث ويفيد ويستفيد في جو من الإبداع والإمتاع والمؤانسة. 
أذكر أنه قدم علينا مرة من مقر عمله في جزر القمر ووجد النقاش في ذروته بين الطلبة في إعراب صدر بيت ابن مالك في ألفيته :
نكرة قابل أل مؤثرا 
حيث ذهب النقاش بعيدا إلى معترك القضايا المنطقية ، فقال الدكتور جمال رحمه الله تعالى مداعبا لهم بأسلوبه الممتع : أنا أرى أن الأمر أقرب مما ذهبتم إليه ف"قابل أل" مبتدأ ،و"نكرة" خبر، لكنكم نجباء، ولا تعانون مشاكل الإدارة، فلديكم الوقت الكافي للتوسع في نقاش المسائل .

وتراه يخوض مع كل ذي فن في فنه فتتذكر قول العلامة حرمه بن عبد الجليل رحمه الله تعالى في قصيدته البديعة التي رثى بها العلامة مولود بن الفغ عمر رحمه الله تعالى :

إذا جال في مضمار فن حسبته
لإتقانه ما جال في غيره فكرا

قال لنا مرة مختبرا مدى حفظنا لمختصر العلامة خليل في الفقه المالكي : أي فصل في المختصر لا توجد فيه عبارة من قاموس مصطلحه الخلافي : تردد، خلاف، قولان...؟
فلم نهتد إليه ففَتح علينا بأنه فصل (الاستخلاف).

وأذكر أنه دعاني في إحدى الليالي الصيفية لأمهد له منتبذا يستريح فيه ويستروح ما أذنت له منازل الحي من لطيف النسيم في بعض أفنية دار إقامته، 
فأنشدني على وجه المكافأة طرفا مما حصل بينه وبين الشاعر الأديب عابدين ول التقى في مدخل المستشفى الوطني حيث قال عابدين معلقا على حالة :

افذي الصَّيده ذا الصيد اعگيد
والصيدَه في الصيد اعگيده 

بسمنحال نفطم ذا الصيد 
ولل نفطم زاد الصيده 

فأجابه جمال قائلا :

رغت افطام الصيد اتواحيد
ورغت اتبان افطام الصيده 

واشبه لا گد افطام الصيد
والصيدَه يخلگ في ابليده

ويضيف جمال معلقا :لأن فطام أحدهما فقط لا جدوى فيه.
وضاعت من حفظي بقية المراجعة

وفي رحلة له مشهورة بدأت صباحا من مكاتب الاسيسكو بالرباط وتوجت بالرواح إلى قرية برينه(حيث أفاض الله بمجالس في تلك الأيام)
يقول منظومته الشهيرة التي بدأها بالقول

بينا أنا في مكتب الإسسكو
تسبح بي في الغفلات الفلْك

ويقول إنها استوت على الشطر الأخير منها وهو قوله

ورب ليلة فداها العمر.

خلال هذه الزيارة الميمونة صحبته في جولة للسلام على بعض الإخوان وقلت له " إن رحلتكم هذه تذكر بقول ادّان:

ما گط امنادم بعد بين
البحرين ال الانَ

واسَ جونابه ليلتين
من تجگجه كون ان

فوقع منه الموقع وكان يحدث الجماعة بذلك ويقول كزّْهَ فيّ فلان.

وفي تلك الأيام سمعته يروي للشيخ حديثا جرى بين  محمد المختار ولد اباه وآيات الله تسخيري، حيث خاطب محمد المختار المسؤول الإيراني قائلا :
عسى أن يكون المسلمون في إيران استفادوا من ثروتها النفطية، فأجابه تسخيري منشدا :

الناس تعشق من خال بوجنته
فكيف بي وحبيبي كله خال.

إن من صحب الدكتور جمالا رحمه الله تعالى يدرك حتما أنه لم يكن باحثا أكاديميا محققا وأستاذا مقتدرا وباحثا محققا فحسب، بل كان مع ذلك عبدا قانتا لله يعيش بروح قوية وهمة عالية تحفزها خشية الله تعالى والرغبة فيما عنده ، رجلا موطأ الأكناف محبا للصالحين  راسخ الاعتقاد في شيخه الذي هو مربيه ومعلمه وجليسه على مائدة الأدب
 
أذكر أنه مرة دخل النباغية عشية قادما من تمبكتو في رحلة برية متواصلة في غاية المشقة وكنت أتعجب من أن ذلك لم يمنعه من قيام ليلته وحضور صلاة الصبح في المسجد مع الجماعة ،

 بث جمال رحمه الله تعالى شؤون حبه وشجون حديثه عن النباغية و"أهلها" في روائعه الشعرية المشهورة كبائية الحرم النبوي، وطلعة الطريق إلى النباغية، وطلعة المشبوح والثري ورائية البتراء 
وزجلياتها الملحمية التي انتهج فيها أسلوبا لم يسبق إليه، وكأنه استلهمه من قول سعد بن معاذ رضي الله عنه يوم التحكيم "ومن هذه الجهة؟" 

رحم الله جمالا وتقبل منه صالح العمل وأبقى ذكره الحسن إلى يوم الدين.

وأختم هذا الحديث المقتضب عن هذا العلم الباذخ والطود الشامخ متمثلا بمطلع قصيدة من روائع رثائيات البحتري لم أسمعه عند أحد قبله :
أقصرَ حُميد لا عزاء لمغرم 
ولا قَصر عن دمع وإن كان من دم