"طيور النبع "/المدون اكس اكرك (سيدى محمد )

اثنين, 14/10/2019 - 01:08

 

ازدادت مكتبتي الصغيرة مؤخرا برواية "طيور النبع"  للكاتب الصحفي الأستاذ عبد ولد محمدي ، والتي فرحت بها ووضعتها في الرف الأول ، حتى أجد فرصة لقراءتها قراءة ماتعة، فأنا لا أحب القراءة المبتسرة، فلذة القراءة عندي في موضعين، أن أخلو بنفسي على شاطئ اللازوري أوأكون في رحلة على متن طائرة أو قطار..

أشعلت المصباح الصغير وطويت الدجى مسافرا مع أحداث الرواية..

بطل الرواية مثلي جاوز منتصف الليل بكثير ، وكاد النعاس يغلبه، إلا أن اللازوردي عندي هادى، والجو عنده هادر على ناصية "كران بيا" من خلال نافذته المشرعة على ليل مدريد الذي لاينام..

اختلفت أجواؤنا وجمعنا شوق عارم للمنتبذ القصي ، البطل السارد يشُد حزام الشوق للعودة إلى بلدته الوادعة التى قام بينه وبينها ما يشبه الضباب ، بلدة النبع المباركة حيث الأرض قريبة من السماء وحيث الصفاء وصوت الحياة الأول حيث البداية.. 
من حداء الصحراء وميس الهوادج وبكاء الماّذن واحتراق الغروب وميلاد الضوء ، انطلقت طيور النبع ماخرة عباب الرمل مفردة أجنحة الأمل محلقة نحو الأفق البعيد..

لاتقع الرواية في شراك الحكاية التقليدية، بل هي ذات طبيعية ديناميكية سردية مخالفة لطبيعة القص في الروايات الكلاسيكية وتقنيات القص التقليدي ، لقد استطاع الكاتب تقديم الأفكار ممتزجة بالأحداث الآنية والأحداث الماضية معا .. فنلمس حرية الحركة ما بين الأزمان الثلاثة الماضي والحاضر والمستقبل، بأسلوب ممتع وسلس وشائق.

وبما أن الكاتب صحفي ورحالة وأديب ومثقف، فقد قدم من خلال الرواية عدة مستويات للقص ، مستعيناً بأدوات كاتب التحقيق المتمرس مستخدما عدسة الصحفي وريشة الفنان ، وأسلوب المثقف،  وذلك بوعي تاريخي لافت ، وحس أدبي ، وذكاء مهني مميز، فتجد اللغة الصحفية القادرة على رصد الأسماء والتفاصيل والأماكن في مستوى السرد العادي الذي يأتي على لسان الشخصية ذاتها.
ثم يوغل بنا بلغة الأدب الشاعرية حين يلج إلى إلى روح الأشياء بالاستبطان الذاتي أوالمونولوج الداخلي. 

لقد استخدم ولد محمدي تقنية تيار الوعي عند البطل السارد كما استخدمه الروائي السنغالي "شيخ حميدو كان" عند بطله "سامبا ديالو" عندما كان بطله يعود بأسلوب الفلاش باك -الارتداد - analepse لرواية الأحداث.

وفي الرواية ينتقل الزمان بحركته اللامرئية بين أبعاده الثلاثة: الماضي الذاكرة، والحاضرالماثل ، والمستقبل المستشرف من خلال مشاريع البطل.
والزمن في الرواية كزمن المنتبذ القصي "زمن كوني" كما يسميه الراحل تيودور مونو، إنه نسيج الحياة الداخلية الرتيبة لأولئك الرحل التي تنساب حسب وعيهم للزمن ، كما ينساب الماء في مجرى النهر.‏

وتتقاطع سيموطيقا الزمان والمكان، لتعطينا قراءة جديدة للمكان كفضاء، خاصة النبع كدالٍ مكاني مستمر يحمل سيموطيقيا زمانية/رمزية منذ قدوم ذلك الجد من الحج يحمل ذلك الماء المبارك..
الماء برمزيته اللامتناهية.. فالماء أصل الوجود والخلق وسر البقاء
في البدء كان الله ولا شيء معه وكان عرشه على الماء..
نحن من ماء..
الكوثر..
ماء زمزم..
وجعلنا من الماء كل شيء حي..
لم تقم الحضارات إلا على الماء..
في المنتبذ القصي كان الناس يتعقبون الغيمة أين يسقط ماؤها
وأقاموا الآبار تمتاح منها الماء فعرف كل أناس مشربهم واستمدوا تسمية مواضعهم من أسماء آبارهم
وفي النبع.. نبع الماء من الأرض وجاء الجد بالماء المبارك، فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِر..
وحين انقطع الماء حل الجفاف بالنبع فحلقت طيوره خارج النبع وفي النهاية عاد الماء وعاد الخصب والنماء وعادت الطيور..

تلك هي سيموطيقا المكان في الرواية وفي العنوان.. إدراك جديد للمكان، يتجاوز ماديات المكان إلى علامات المكان؛ فالمكان في الرواية ليس فضاء فارغا، بل مليء بالكائنات وبالأشياء... والأشياء جزء لا يتجزء من المكان، وتضفي عليه أبعادا خاصة من الدلالات.

في بنية الرواية تحتل الشخصيات مكانة مهمة، فهي مؤثثة بمجموعة من الشخصيات تتقاطع لتصنع الحدث، فهي طيور النبع تتحلق حولها كل عناصر السرد مساهمة في نمو الخطاب داخل الراوية باختزاناته وتقاطعاته الزمانية والمكانية.
يغير الدهر اليوم اثقال :: بيهْ إلّ فيه امتان إيبان
تقليب الزمان، ءُلحوال :: تتقلب تقليب الزمان

الحوار في الرواية استغنى عنه الكاتب بالوصف، فلم يثقل روايته بالحوار..

الشخصيات في العمل الروائي حيث كان هي عنصر من عناصر الحكاية مصنوع من الكلام، تصفه الحروف وتصوره وتنقل أفعاله، لكنك في طيور النبع تحس الشخصيات حية ماثلة رأي العين تكاد تسمع نبضها..
لايتسع الوقت لذكر شخصيات الرواية لكن شخصيتين استوقفتاني، هما المجذوب وعبد الرحمن، إضافة للبطل السارد، الذي يعود بعد عشر سنوات في السفارة في مدريد بمنصب محاسب يعود إلى بلاده..

وإذا كانت رحلة بطل "موسم الهجرة إلى الشمال" تصاعدية ، فإن رحلة سارد الحكاية بطل طيورالنبع، كانت تنازلية حين عاد من صخب مدريد إلى حركة نواكشوط الخفيفة إلى سكينة وهدوء النبع..وإن كان عاود المسير إلى الخليج وإفريقيا..

حين يعود البطل إلى نواكشوط قادما من مدائن الريح لاشيء يغريه بأحضانه ليمسح عن روحه الغربة والتوتر، مدينة ناشئة تتلمس طريقها نحو الحداثة شوارع قيد الإنشاء مسارح تتنفس وطلبة يبحثون عن الذات والهوية الضائعة بين صراع الحضارت والثقافات..

من الشخصيات الاستثنائية في الرواية شخصية عبد الرحمن، وهو طالب ثوري وصاحب فكر متحرر ذو نزوع يساري وقومي وذو شخصية ذات مزاج وتناقضات شتى، ترمز إلى شخصية صحراوي يأنف من القيود ويرفض الزيف والتملق وينحاز للحق ولو كان ذلك على حساب المصالح.. 
مدمن على القراءة، ومتحمس للقضايا العربية، خصوصا القضية الفلسطينية. ومتعاطف مع حركات يسارية وعمالية.. يلتقيه البطل في الكويت وفي الدوحة ويتعرف من خلاله على مجموعة من السودانيين، حيث تتقاطع الثقافة حد التماهي بين السودان والمنتبذالقصي في الموسيقى والأدب والتصوف..

عبدالهادي المجذوب، أستاذ البطل الذي علمه القرآن، وحرضه على حفظ الشعر الجاهلي، وبعث في روحه جذوة التصوف التي لن تنطفئ أبدا.. المجذوب المسكون بالمواجد التي تراوح بين الهينمة والترنم والرقص..
ولئن كانت بلاد الغرب تموت من البرد حيتانها على حد تعبير الروائي الطيب.. صالح، فإن بلاد نجد والمنتبذ القصي يهلك في جوانبها النسيم لفرط الحر، كما يقول غيلان ذو الرمة:
تموت قطا الفلاة بها أواما :: ويهلك في جوانبها النسيم
ولئن كان ذو الرمة غيلان بن عقبة شاعرا استثنائيا، فقد عشقه وتماهى معه رجل استثنائي هو المجذوب ..

ويجمع بين المجذوب وعبد الرحمن، رجل استثنائي آخر لقيه عبد الرحمن في باريس هو المناضل محمد الباهي، الموريتاني الأصل وأحد رموز اليسار ..
رجل استثنائي اقتفى إثر خاله حرمة ولد بابانا حين هاجر إلى المغرب، إلى لحظة اختفائه الإرادي في عتمات باريس وأنوارها وغموضها..
في باريس، عاش الباهي بكل ما تعنيه الكلمة من معاني الشبع. نزل إلى مغاراتها السرية، تشرب دروبها، وكان من أكبر المشائين بها، وبها ظل يزور "مقبرة الكلاب" ويقرأ على الشواهد الصغيرة بصوت مرتفع قصائد "ذي الرمة:
أمنزلتي مي سلام عليكما :: هل الأزمن اللائي مضين رواجع
وهل يرجع التسليم أو يكشف العمى :: ثلاث الأثافي والرسوم البلاقع
سؤال حياة غارق في قلق الفلسفة عن معنى الكائن في سديم الوقت.

عاش الباهي كل الأزمنة الصعبة للفعل السياسي الوطني، القومي العربي، والإنساني، وظل منارة تنير طريق الكثير من التائهين في دروب المنافي الباريسية، مثلما ظل واحة راحة للكثير ممن طوحت بهم دروب الفعل السياسي المناضل. وظلت له مكرمة حفظ الأسرار والوفاء للمودات وللرجال.

جمع اليسار والقومية بين عبدالرحمن والباهي وجمع غيلان والشعر بين الباهي والمجذوب..

من شخصيات الرواية نجد مريم، قارئة الودع، التي تتمتع بسلطة روحية تصل الأحياء بالأموات، وتخبر عن المغيبات.. في مجتمع لايزال يصيخ السمع للودع من رئيسه ووزيره إلى خفيره..

ونجد شخصية أخرى هي محمد الحافظ، وهو من أبناء النبع الذين هاجروا منذ زمن بعيد فباتوا شبيهين في ذاكرة الناس بشخصيات خيالية أو أسطورية، انسجم تماما مع تقاليد الناس في ذلك الصقع الإفريقي، في (لابي) بأعماق غينيا وأصبح واحدا منهم، خصوصا بعد أن تزوّج أربع نساء، وقد تمكن من تعزيز مكانته من خلال معرفته العميقة (بسر الحرف) الذي يسخر من خلاله الجن ويقهر الشياطين ويصنع الخوارق..

محمد الحافظ نموذج للشنقيطي المهاجر، طرحت الرواية من خلاله إشكاليات الجيل الأول حين يوغل في الهجرة ويطول عليه الأمد بين حلم العودة وواقع الحال.
 وإشكالية الجيل الثاني والثالث ضائع الهوية، أوما يصفه الكاتب المبدع أمين معلوف بمسألة الهوية والإنتماء، بين التمسك بهوية وقيم البلد الأصلي أو"التماهي" مع البلد الذي يولد ويحيا فيه الإنسان وذلك من خلال اكتساب عدد من السلوكيات..

وأنا على اللازوردي وجدتني غارقا في جو من من المتعة والإثارة عرفت بعضه وأعرضت عن بعض..

خواطر سريعة دبجتها وأنا على جناح سفر..
جعل الله يومكم ياسمينا..

كامل الود