رحلة إمتاع فى ظلال رحلة مع الحياة/محمد غلام محمد بوب

أحد, 13/02/2022 - 14:48

 

رحلة تشدك من أول حرف، فصولها كأصابع العسل لا تدري أيها أشهى.

فعلى كل قنة من هذه المذكرات الفريدة للعلامة الدكتور محمد المختار ولد اباه - وكلها قنن وقمم - كنت أقف. من البدايات في أحضان البادية إلى رحاب المحظرة إلى التحصيل العصامي إلى مفترقات طرق الحياة ومعتركها.

كنت أقف وأتأمل، وحتى أنا أتعتب أولى الصفحات، كانت تتملكني الدهشة والشعور بالانتشاء وبكثافة اللحظة المثيرة أسئلة من قبيل: ما الذي يمكن أن يكون في باقي الصفحات التي ناهزت الأربعمائة؟ 

وأي المواقف والمعارف والخبرات، بعد هذا، يمكن أن يستثيرك؟ 

وقد تبين لي دائما أن وراء الأكمة ما وراءها، وأني أصّاعد في غابة من الجبال المعرفية ودروس الحياة تملأ الآفاق، لا يمكن النزول من شواهقها إلا بعد قراءة آخر سطر. تتشبث بآخر حرف متمنيا ألا يكون الأخير لفرط الإمتاع والمؤانسة.

بين السياسة والدراسة والأدب والفكر، تقلب ذلك البدوي وشغف بالعلم ونيل أعلى الشهادات وأسمى الدرجات..

هنا في هذه المذكرات ستقف على فصول من القصص البكر والنوادر العجيبة، من قبيل قصة الذي يقدم نفسه في القاهرة على أنه الأمير ولي عهد كيديماغا !!وعلاقة ولد اباه القديمة مع عبدو ضيوف وكيف كان الرئيس السينغالي السابق يتلطف بأنه هو من أخذ بيده إلى الرئاسة! ومشاركته في أول حكومة موريتانية، وعلاقاته مع ملوك المغرب الثلاثة وملوك السعودية والأردن وأمرائهما، وكيف خطط لمواجهة السجن، ومغامراته في الطيران متحديا العواصف الهوجاء، وكيف أقلع بطائرة بعجلات دون هواء، وملاحظاته على مذكرات المختار ولد داداه، وتبرئته الضمنية له من دم الأمير محمد فال ولد عمير، ودوره في التعريب وإنشاء باكالوريا الآداب الأصلية والمعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية، ومعاناته في ترجمة القرآن الكريم إلى الفرنسية، وغير ذلك كثير.

هنا بين دفتي هذا الكتاب ستجد آثارا وشواهد وبراهين على العالِم الموسوعي المتفنن في أصيل العلوم وحديثها، وعلى الشاعر ذي الحس المرهف، وعلى الأديب ذي القلم الرشيق، والمفكر ذي العقل المتنور، والأكاديمي الذي نال – بالصبر والمكابدة بعد أن كان "مقرئ عربية" - أعلى الدرجات العلمية من أرقى الجامعات الغربية، وعلى صانع الحياة الباني للمؤسسات الذي لا يرضى من المجد إلا بأعلى ذراه. وقبل ذلك على السياسي الوطني المسكون بهموم وطنه وسيادته وأمته وحضارة الإسلام والمسلمين.

هنا ستطل على آفاق رحبة للتأمل في القضايا المجردة، في الفكر والفلسفة واللغة والتربية، وستقف على أدق القضايا التفصيلية من تخطيط إجرائي وإداري ووضع للمعايير الدقيقة في القضايا التنظيمية.

وفيما يتصل بتاريخ موريتانيا الحديث وما اكتنف لحظات التأسيس، فإنه بصدور مذكرات الدكتور محمد المختار ولد اباه حفظه الله (رحلة مع الحياة)، تكتمل الروايات، وتصبح الصورة ناصعة ثلاثية الأبعاد.

لقد استمعنا لروايات شهود العصر: المختار ولد داداه، محمد عالي شريف، وغيرهما، وبقيت هذه الشهادة غائبة، ولا شك أن صدورها اليوم يسد موضع لبنات أساسية ظل مكانها فارغا في بناء تاريخنا الحديث.