منطق التاريخ - هناك حقيقة ثابتة غير قابلة للشّك، و هي أنّ التاريخ لا يتحمّل الزور طويلا، و مهما طال الزمن لا بُدّ للحق أنْ ينبلِجَ ذات يوم...كم من حُلم كان يبدو مُستحيلا تحقّق في ظرف جيلنا نحن أبناء خمسينات القرن الماضي، أي في غضون سبعين أو ستين سنة من عمر البشرية.
كانت التحديات الرئيسية التي تواجه أحرار العالم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية تتلخص أساسا في:
- تصفية الاستعمار بشكل تام من القارة الافريقية والعالم،
- الاطاحة بنظام الفصل العنصري [الأبارتايد] في جنوب إفريقيا،
- الإطاحة بنظام الاحتلال الإسرائيلي، وتحرير فلسطين أرضا وشعبا،
- استرجاع حقوق السود في الولايات المتحدة الأمريكية،
- تحرير شعوب الهند الصينية في فيتنام و كامبوديا و لاووس،
كنا ننظر إلى هذه المطالب والقضايا بصفة كونها أحلاما وطموحات "مستحيلة". و ها قد تحققت جميعها، إلاّ واحدة ما زالت في الطريق. تحققت هذه المطالب على يد نخب مستنيرة آمنت بعدالة قضاياها و حتمية انتصارها لأنّها توافق مجرى التاريخ. ومعلومٌ أن التاريخ يجري مدّا وجزرا، ويمر تارة بمنعطفات وعِرة وخطيرة، لكنه لا يسير إلى الوراء، ولا يتَوقف. ويبقى هو هو؛ لا فرق فيه بين فلسطين وجنوب أفريقيا، والسود في أمريكا، والهند الصينية، وأفغانستان، وفي أي مكان. التاريخ هو التاريخ، ونواميسه لا تتغير ولا تتبدل.
* انتصار الإرادة الفلسطينية
لقد مرت "القضية الفلسطينية" بعقود صعبة من الترنُّح و التَّيه بين جامعة الدول العربية، والأمم المتحدة، وأوسلو، ومدريد، إلخ ؛ ولكنها اليوم، تصحح البوصلة وتسير على هدى أبنائها البواسل في كتائب القسام وسرايا القدس وفصائل المقاومة الأخرى، الذين حملوا أرواحهم على أكفهم لتروي دماؤهم ربوع فلسطين. إنّه التاريخ وقانون الحياة الذي ينجرف في تياره كل من يُعاكسُ مجراهُ، و يقِفُ في وجه سيله العارم. إن ما نعيشه اليوم في غزّة، و ما تسطرهُ المقاومة من بطولات، و ما نراه من تحَول في كفاحها:
- من الدفاع إلى الهجوم،
- ومن الكلمة إلى الحجارة،
- ومن الحجارة إلى الرصاصة،
- ومن الرصاصة إلى الصاروخ،
-ومن الصاروخ إلى الطائرة المسيّرة ..
مسيرة تصاعدية تستمد "وَقودَها" من دماء وعرق شعب بأكمله، وإنجازات مضيئة ترسم عنوانا بارزا في سجل التحولات التاريخية العظيمة التي عشناها في العقود ال7 الماضية؛ و التي كانت تبدو "مستحيلة" في نظر العَوام. إن "طوفان الأقصى" بما حقق من انتصارات باهرة "للإرادة" الفلسطينية ليفتح آفاقا جديدة في المنطقة والعالم.
* نهاية الأساطير..والتقدم نحو الحل
ومن بركاته كذلك أنه جرف بسيوله العارمة أسطورة "الجيش الذي لا يقهر"، وكذبة القانون الدولي الإنساني، و زَيف المحكمة الجنائية، والأسلحة المحرمة دوليا، وازدواجية الغرب المخزية والمفضوحة أصلا.
إن ما حدث يوم السبت 7 أكتوبر 2023 في المستوطنات - ولم ينته بعد - هو نتيجة ازدواجية الغرب ونفاقه، و ثمرة الظلم الذي يمارس ضد الفلسطينين بوسائله وتحت رعايته منذ أكثر من 7 عقود. اليوم، وبعد عملية "طوفان الأقصى"، كل شيء سيتغير. المجتمع الدولي سيتغير رغما عنه، والأمم المتحدة ستتغير، والأمة العربية والإسلامية ستتغير، والشرق الأوسط الكبير بمفهوم "كوندوليزا رايس" (بضم شمال أفريقيا) سيتغير. انتهى الخوف الذي كان يشعر به العالم أجمع. إسرائيل لم تعد أقوى جهاز استخبارات في العالم، ولم تعد أقوى جيش في المنطقة، ولم تعد أكثر الدول رعبا بعد ما أذلتها حركة "حماس" و مرّغت أنفها في التراب.
والحالة هذه، فمن الطبيعي أن ينبلج نظام دولي تعددي جديد أكثر توازنا وتشاركا، يتراجع فيه نفوذ الغرب وغطرسته وجبروته لصالح تكتلات وأقطاب عالمية أخرى. وبين هذا وذاك، من الوارد أن تظهر "باندونغ" جديدة (1955) - حركة "عدم انحياز" جديدة - تقول من خلالها شعوب العالم كلمتها في الشأن الدولي.
ولهذه الأسباب، أقول إن "طوفان الأقصى" هو فاتحة عهد جديد - ولو تدريجيا - نحو الحل النهائي. إنه أكثر من معركة، بل بداية حرب تحرير على المدى المنظور، بإذن الله. وفي الحد الأدنى، سيؤدي إلى رفع الحصار الجائر، وتحرير الأسرى، وتوقيف الاستيطان، وانطلاق مفاوضات جدية تفضي لقيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف.
.