"ذكريات متناثرة عن تگند"/الحلقة الأولى
كانت مدينة تكند نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، تختلف كثيرا عما هي عليه اليوم، كانت مجرد قرية كبيرة فقط، ومع ذلك كانت وادعة وهادئة وجميلة.. تنام مطمئنة وتستيقظ مزدهية في منحدر يشقه الطريق الرابط بين نواكشوط وروصو ـ الذي كان يومها معبدا ـ نصفين، وتطوقه ألسنة الكثبان الرملية المتحركة من الشرق والغرب.
كان من ثوابت المدينة حينها غير المتحولة، حوانيت تگند التي تحيط بالطريق من الغرب والشرق، كما يحيط السوار بالمعصم.. كانت بسيطة جدا يغلق معظمها أبوابه بعد العصر لأن ملاكها أو مسيريها يقطنون في بواد خارج المدينة، إلا حوانيت قليلة كانت تبقى مفتوحة، حتى بعد أن يرخي الليل سدوله، مستخدمة مصابيح غازية لِتوفر للمسافرين عبر الطريق وساكنة المدينة ـ وهم قلة يومها ـ ما يطلبون.
كانت ذروة عمل الحوانيت من الثامنة صباحا حتى الواحدة ظهرا؛ حين يأتي إليها المتبضعون من شبه المنطقة.
كان أصحاب الحوانيت مختلفي الطباع والأمزجة، وهم طيبون جميعا، ولكل منهم زبناؤه، وفي بعض الحوانيت كانت هناك مجالس تقام بشكل شبه يومي يتبادل القوم فيها أطراف الحديث، وتختلف من مجلس لمجلس.
ومن تلك المجالس مجلس كان يعقده والدي عبد اللطيف بن بديه يدرس فيه القوم أحكام العبادات وبعضا من أحكام المعاملات كالبيع، فقد كان رحمه الله يستفسر أرباب الحوانيت عن معرفتهم بتلك الأحكام عارضا عليهم التفقيه فيها، وقد يستمع البعض منهم في الظهيرة والمساء إلى الإذاعة.
ولا يزال في فمي طعم "بلبصتيك" حانوت السيد محمدو ولد أبغش أمد الله في أيامه، والذي كان حانوته الحانوت الوحيد الذي يبيع "بلبصتيك" لتوفره على ثلاجة تعمل بالغاز، وهي خصوصية لم تتح للكثير من الحوانيت غيره.
ومن ثوابت تگند التي استيقظت عليها: "النيگبات" وهي مجموعة سيارات من طراز بيجو PEUGEOT 404 تمارس النقل بين تگند ونواكشوط.
كانت هذه السيارات تغدو من تگند خماصا إلا من بعض الركاب المتجهين إلى نواكشوط، وقناني الغاز الفارغة، وتروح من نواكشوط بطانا تحمل البضائع والركاب والخبز "النواكشوطي" اللذيذ، ومن أصحاب "انيگبات" علي ولد يورو، وسالم ولد اصنيبه رحمهما الله، والنعمان ولد محمد عبد السلام، وعبد الله ولد المامي، والغائب، أمد الله في أيامهم.
وكان عبد الله ولد المُبيرك، أطال الله عمره متفردا بالذهاب إلى روصو في الاتجاه الآخر.
ومن ثوابت تگند في تلك الفترة؛ وجود مجانين يتخذون من المدينة سكنا ومقاما، وربما أقام الواحد منهم فترة وظعن، غير أن الثابت هو وجود مجنون أو مجنونين أوثلاثة، وقد يصل العدد في بعض الأزمنة الأربعة و الخمسة.
وقد اقترح الأستاذ السيد ولد أحمد يحيى حفظه الله مرة أن يخصص لهم ممثل في المجلس البلدي.
ويختلف مجانين تگند فمنهم الباطش، ومنهم الصامت الساهم، ومنهم المهذار، ومنهم من يصارع الأطفال فلا تهدأ معاركه معهم، ومنهم من تخافه النساء..
من أشهر مجانين تگند في عصرهم الذهبي؛ فَضِيلُو رحمه الله، وهو رجل مسالم جعل من حماية الطريق المعبد الذي يشق المدينة هدفا وغاية، وكان يظل سحابة يومه يذود الأطفال عن حياض الطريق قائلا كلمته المشهورة "بَعْدُو عن تَاسَّارِتْ المختار ولد داداه لا اتْوَسْخُوهَ"، وربما جاس فضيلو خلال الديار فأفزع الأطفال والنساء، وقد يُخَوّفُ به الصبية فيقال لهم: "أرگدو لا إجيكم فضيلو".
ومنهم حمتي ولد ابنو رحمه الله؛ وهو رجل مسالم لا يبطش، حسن الصوت يترنم دائما وينشد خصوصا في مقامي لبياظ ولبتيت، وربما أنشد "ردات" في المسجد قبل الصلاة أو غبها، دفعه ذات مرة إمام مسجد ونهره عن الغناء وقت الصلاة فقال بهدوء : "يلالي مثقلْ حد ما يسمعْ الهول".
كان يحاكي سدوم فينشد بصوت ندي: حبيبتي إن يسألوكِ عني، ويضيف من عنده: "كانِ اتْعَشيْتْ گوليلهم مَانَلل عَنِّي بايتْ افْلِخْلَ". وقد يستمع إلى طلاب المحظرة يدرسون ألواحهم فيأخذ بظاهر بعض الآيات مُحِيلًا له إلى اللغة المحلية المتكلمة، ك "علمت" في الآية (علمت نفس ما أحضرت).
ومنهم الحسن ولد بُيعدلْ؛ ما زال حيا وقد تقدم به العمر وضعف، كان في سالف عهده مرهوبا إذا تحرك في المدينة فزع الرجال قبل الأطفال وانطلقوا لا يلوون على شيء، كان لا يقوى على مواجهته إلا رجل من أهل القرى المجاورة للمدينة أو اثنان.
باغت ذات يوم أهل "المَربط" فولوا هاربين عنه، وبدأ في ذبح الحيونات المعروضة على الطريقة الإسلامية، فتدخلت فرقة الدرك وما استطاعت توقيفه إلا بعد جهد جهيد وحِيَلٍ متعددة.
ومنهم احْرَيْمَهْ؛ قيل لي بأنه مازال حيا، وأنه شفي وأصبح منميا في بواد في حيز المدينة، وهورجل مسالم جدا وربما قام ببعض الأعمال العادية كتفريغ البضائع من السيارات، إلا أنه لا ينطق إلا بكلمة "وتوف" فعليها يمسي ويصبح، وكان يأتي إلى قريتنا في الضاحية الشرقية لتگند مع سيارات لا اندروفر
Land Rover
(سيارات الأجرة في تگند يومها) فنتجمع نحن الأطفال لنسمع منه "وتوف" المكررة ما دامت السيارة متوقفة تنزل ركابها وأمتعتهم فيسمعنا "وتوف" طَرِية، وما هَمَّ قط بسوء اتجاهنا، حتى إذا أنهت السيارة مهمتها تعلق بذيلها والأطفال يشيعونه بترديد اسمه، وربما ردد بعضهم الكلمة المقدسة "وتوف".
وذات يوم توقفت سيارة فاخرة قادمة من نواكشوط باتجاه لگوارب يشكو صاحبها خللا بسيطا فيها، فلقيه أول ما لقيه احريمه، فظنه مصلح السيارات، وأخذ بكمه وذهب به إلى سيارته، وعندما فتحها له حدق احريمه في المحرك قليلا ثم رفع رأسه وهو يقول : "وتوف أهيه حگ وتوف وتوف" فقال الرجل : " ذيك كَوْلَاتْ قَطْعًا".
ومنهم محمد الأمين ولد أحمد ديه رحمه الله؛ دركي سابق مسالم في أغلب أوقاته، لا يكثر الكلام، يطيل التجوال في المدينة والجلوس في مطاعمها، وربما غازل النساء إيماءً ففرن منه لما خفنه، وفي بعض المرات كان يذهب إلى بعض القرى القريبة من تگند زائرا فيحدث حالة هلع بين النساء والأطفال.
ومنهم أگيه؛ وهو رجل سينگالي يقول أهل تگند إن سيارة مارة قذفت به إلى أزقة تگند الضيقة ذات ليلة، فأصبح فيها راجلا يوزع النظرات بصمت في كل الاتجاهات، لا يتكلم ولا ينال أحدا بسوء رغم ما عاناه من تحرش الأطفال الدائم به و رميهم إياه بالحجارة، خاف الناس في البداية منه فمنظره يفزع، ولكن مع مرور الوقت وتصالح العيون مع شكله ألفه القوم!
وقد سموه "أكيه"، ولا أعرف متى ولا إلى أين غادر تگند.
ومنهم أحمد ولد المَدَّاحْ؛ توفي رحمه الله قبل أشهر قليلة، كانت ترافقه على الدوام والدته العالية رحمها الله، التي كانت تحرسه وترعاه، ومع مرور الوقت نالها بعض مما به.. ورغم كون أحمد مسالما وادعا فإنه يدخل أحيانا في صراع مرير مع أطفال المدرسة وعموم أطفال المدينة، ولا يُخرجُ أحمد رحمه الله عن وقاره شيء مثلما يخرجه مخاطبة الأطفال له بـ "عَرْ الزبْدَهْ".
وهناك صنف من القوم في منزلة بين المنزلتين، لا هو بالمجنون الصرف، ولا هو بالصحيح! أحيانا يقترب من المنزلة الأخيرة وربما مال إلى المنزلة الأولى.. ومن الصنف الذي ربما مال إلى المنزلة الأولى في نظري "اكْرَيْتِيمْ"؛ وهو عامل عند الوالدة انيامه رحمها الله، كنت أتتبعه وهو يَمْتَحُ الماء من بئر الشيخ حمَّدا ولد العيدي حفظه الله ورعاه، الواقعة في الفناء الخلفي لحانوته، لأدقق النظر في إعاقةٍ في إحدى يديه اسماه الناس بسببها "اكريتيم" كان مسالما رغم انطوائه وكلامه غير المفهوم، ولا أعرف إلى أين صار أمره.
ومنهم مُسَّه؛ وهو عامل عند الإداري المخضرم المختار ولد اتوينسي رحمه الله، كان كلما لقي أحدا استوقفه وضحك قائلا : "تختيرنِي آن والل المختار ولد اتوينسي؟" .
وربما اجتمع بعض من القوم معا في سانحة فكان ما كان.. وأدار الأقوى جدول الأعمال.. من ذاك ما كنت شاهدا عليه في ليلة شتوية؛ فبعد أن تولى الليل إلا أقله.. ولم يبق من الحوانيت إلا واحد أو اثنان، تعودا مسامرة العابرين عبر الطريق، كنت أتأهب لمغادرة قلب المدينة إلى ضاحيتها الشرقية، وكانت هناك شاحنة سينگالية كبيرة تعطلت بالجانب الأيمن من الطريق منذ أشهر، فَتَلفتْ عَجَلاتُها، وأصبحت مركزا يتدرب فيه الأطفال على الجلوس خلف مقودِ السيارة، فما راعني إلا الحسن ولد بيعدل، وقد أخذ حمتي واحريمه و ول احمد ديه، باتجاه الشاحنة المتعطلة، فجلس في مقعد السائق، وأمر رِفَاقَهُ بدفع الشاحنة من الخلف.. كان الرفاق يدفعون بكل قوتهم.. وكان الحسن يصرخ عليهم: "بُوسُو حت"، وبعد فترة نزل غاضبا وخاطبهم بحدة: "ما هَامْكُم اتْبُوسُو انتوم خوَّانَهْ" عندها ترجل ولد احمد ديه بكل هدوء وشجاعة جنوبا ولم يلتفِت للقوم! وبقي حمتي واحريمه يدفعان السيارة، والحسن يخاطبهم من خلف المقود : "لاهي تگدي ظرك وتمشو شور سينگال تشتغلو خَالِيتْكُمْ گلت الشغله".
رحم الله من قضى منهم، وشفى من بقي، فكم أخافونا وأضحكونا معا.
الأديب النبهاني ولد امغر