
(يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية) صدق الله العظيم
وارينا الثرى فقيدتنا والوطن ، السيدة البشوشة والشابة المثقفة والأخت الصادقة، والأم الحنون، والزوجة الوفية الصالحة، والمناضلة الشجاعة نزهة منت عبد الجليل فجر اليوم بمقبرة لكصر وسط حشود منوعة ضمت الأهل والأقارب والمعارف ومناضلي الحركة والأصدقاء ، لفيف يعكس حجم الخسارة التي أصيب بها البلد في فقدان العزيزة نزهة.
نزهة التي كرست حياتها للنضال من أجل وطن حقيقي لا ظلم فيه ولا معاناة، ولم يكن موتها - رغم الألم - إلا مولدا لنموذج فريد من العطاء يبقي الذاكرة منتشية بعطر فضائلها الشخصية، واتساع دائرة نفعها بمدى وطن..
بلغت من عشق الوطن عتيا رغم أنها لم تُمْهَل إلى سن الثلاثين.. تعذبت مع المظلومين في كل شبر من هذه الأرض ربما أكثر من إحساسهم به.. وطاردت أحلام العدل والإنصاف في أكواخ لمغيطي، وما تبقى من متاع االمساكين في حرائق الورف ناثرة آمال التطلع إلى حياة كريمة، وحملت بيديها عدة طبية في وقفة عز بيوم قائظ بنواكشوط مطلقة صرخة مكتومة لتلفت الانتباه إلى تدهور أوضاع الصحة، وقفت بشموخ وشجاعة أمام آلة القمع العسكرية لتؤكد حق كل الشباب الموريتاني في التعبير عن تطلعاته لدولة الكرامة والعدل والرفاه..
ما بين لحظة الانتماء للحركة والوداع الأخير ظلت نزهة صافية المعدن، واضحة في التمييز بين القشور والجوهر، زاكية النفس، مخلصة لمُثلِ الحركة، بحماس لا ينضب، لا يكسره خذلان من خذل ، ولا يلينه وطأة المرض..
هذه الديناميكية التي ظلت مستعرة لم تخف جاذبيتها لكل من اشترك معها ميادين النضال أو ساحات العمل الخيري أو مقاعد الدراسة أو مكاتب العمل التي جمعت بينها في تناغم عجيب يشي بالقدرة على تحديد الهدف والصبر على الوصول واتساع الرؤية..
صلابة مواقفها في الحق وبسط العدل لا يعدلها إلا صلابة تمسكها بنشاطها في شدة وطأة المرض، حيث لم تكف عن همها الحركي في بعده الاستراتيجي على الأقل بعد أن أعجزها المرض، ولا قلل من وهجها المعطاء في مساعدة المحتاجين، حتى بصوتها الذي لم تبخل به لمساعدة المكفوفين في تسجيل دروس يستمعون إليها لتساعدهم في التحصيل الدراسي، والأكثر إغرابا حرصها على اقتناء الكتب لإشباع شغفها بالقراءة وهي في ذروة الألم والمرض..
ليست نزهة شمعة انطفأت، بل هي شعلة أنارت جزء كبيرا من هذا الوطن المظلم في حياتها، وشعلة تركت نور تراثها مشعا وملهما في مماتها..
ونحن اليوم إذ نفتقد الرفيقة الصادقة في حركة 25 فبراير، فإن كثيرين يفتقدونها أيضا: في جمعية الإرادة، أقرأ معي، جمعية نور.. وغيرها..
يفتقدها المناضلون وهي تسائلهم عن سر تقاعسهم عن القضايا الوطنية، وتثير حماسهم بشجاعتها في الميدان، ونصحها خارجه..
يفتقدها المنكوبون في الهوامش، والمحتاجون في الأطراف، والمقهورون في الحواشي..
فقدها الوطن أجمعه.
"أنا إن مت عزيزا إنما موتي ولادة"
متِّ عزيزة كما عشتِ..
إنا لله وإنا إليه راجعون..
إلى جنان الخلد.