في أيام يحزم فيها الصَّبر حقائبه، ويعبر فناء شعبية المعارضة باتجاه التخبط، بعد أن سئم تلاومهم، أيّهم يكفل المرشح الرئيس،.. أتذكَّرُ الزعيم أحمد داداه، وعائق السِّن.
"أحمد ولد داداه، زعيم المعارضة الوطنية"،..
استطاعت كلمات هذه الجملة، أن تسير متلاصقة لعقود دون أن تُتَّهم بالنَّشاز،.. سيتفق معي البعض بأن زعامة المعارضة ظلَّت فريدة لشخص الرجل، ولم تلد كاريزميا من يخلفها بعده،.. فكلما نُطقت عبارة "زعيم المعارضة" انصرفت أذهاننا عفويًّا إلى أحمد دون غيره.
مارسَ الرَّجل السياسة بنظافة وكبرياء يلامس الغرور، وفردانية اقتربت من الاستئثار بالقرار، وبصدق غالبًا ما يفُسِّر بالحدَّة،.. لكنها مع ذلك كانت له وكان لها.
صادفتُ احمد عشرات المرات، بقامته الشامخة،.. وصادفته عن قرب جدًّا مرتين،.. مرة وهو يجتاز بوابة الكترونية للتفتيش، وضعت بمدخل قصر المؤتمرات، طلب منه الحرس تنحية هواتفه والمرور عبرها... فاستشاط غضبا ورفض، معتبرا التصرف إهانة في حقه، كنتُ أتأمَّل فيه التمرّد الفطري للبدوي على الانضباط مهما تَحضَّر، وتَوهُّم المُعارض للاستهداف مهما عَلَتْ رُتبته، فالحاجز كان لتأمين سلامة الجميع.
المصادفة الثانية كان فيها ليِّن العريكة وسيم الأدب،.. التقيتُه خلال تعزية في بيت لأسرة من ذوي قرباه، جلس منِّي في حدود المتر، بين مجموعة من العجائز، داعبهن ببعض خصوصياتهن "التلميتية"، .. كان يحمل حقيبة يد رجالية صغيرة، تشي ببعض "اتْنَصري" والترتيب.. وملامحه تحمل الكثير من السكينة والسلام،... وبين اللقاءين احْدَوْدبت القامة المُهابة، كقبَّة محراب، ومالت باتجاه الغروب، فقد انهكته ثلاثة عقود من المقاومة الديموقراطية.
خَدَمَتْ شخصية الزعيم أحمد الارهاصات الاولى للتعددية، و كانت الديموقراطية الوليدة في حاجة لشخصية كاريزمية مُلهمة، ومن غير المتداول حينها، قادرة على رفع الصَّوت في وجه الرئيس معاوية، في حقبة ما بعد النضال السِّري الصَّامت، فقيَّض الله لها أحمد في الوقت المناسب، لتُكْمل به نصف دينها المُعارض.
الرَّجل حفيد أرستقراطية سياسية ودينية عتيدة، يمتلك كفاءة وسِجلاًّ نظيفا، توفَّر له القبول الشعبي، و توفرت فيه الشخصية التوافقية لشتات المتنافرين سياسيا في التسعينات،..
ورغم انشطار تيارات الظل في حزبه عموديا وأفقيا، وتفجير "مملكته" أكثر من مرة الى كيانات عجزت عن إبقاء مستوى من "توازن الضعف" بينها، أو في الصمود في وجه تيارات اللون والعرق واسكار العقل.. ظل أحمد أكبر سِفْرٍ في ديمقراطيتنا، وآخر اعتبار لمعارضة وطنية مسؤولة، وانْ اختُزلت في بيانات وردود أفعال، واستقطاب بيني، وبعض الفوقية في الدفاع عن خطاب الثنائية النمطية: موالاة الباطل ومعارضة الحق.
سيظل أحمد من قلة اسْتخرَجَ لهم التاريخ شهادة تزكية في الوطنية الصادقة، وفي النبل في المقصد، وطول النفس في النضال، والتَّنزّه عن المنافع الضيقة ، وخصوصا انعدام البعد الخارجي،.. فقد وافقوا وعارضوا انحيازا للوطن، وفي فترة كانت فيها المعارضة فعلا انتحاريا، يعني التنازل الطوعي عن كل رزق ومصلحة من الدولة، ويعني الاستعداد للمضايقة والتنكيل..
أورثَ هذا الجيل الذهبي النضال لخلق هزيل، من مُعارضة ناعمة، تداخلت فيها الواجهات السياسية بالشرائحية بالعرقية بالمصالح، وتحوَّلت لعبء أخلاقي بعد أن خسرت الوعي النزيه، فضُيِّع النّضال ومُيِّع، وجُعل صفة تحايل، تقتصر على لقطة في مُناوشات مع مكافحة الشغب، صاحبها مرمي على الرصيف بكامل أناقته، مغميّ "اعْلَ الكارهو"،.. يتحرش بالشرطة طلبا للاعتقال،.. بعد أن أصبح سَقْفُ النضال المجافي للنضال لا يتجاوز تسجيل "اختفاء قسري" لمدة ساعات على "النّتْ"، وكتابة نبأ عن "اختطاف" مريح الى مكتب مكيف بتفرغ زينة،.. يشرف عليه "تِيَّاب" من شرطة اسْقَطت من فنونها مُداعبات "الجاكوار" ومشتقَّاته، وتستجوب "المعتقلين" على كأس من شاي،
إن أبشع دعاويهم اليوم على المفوضيات أنْ: "كان الضَّغط النفسي علينا رهيبا"!، .. دَلَعْ!.. ولا تعلمون أن من سبقوكم كان "يُضغط" على أجهزتهم التناسلية كتحية صباح!... ومع ذلك لم يتبجَّحوا ولم يمُنُّوا ولم يطلبوا مقابلا للتضحية، رغم ارتفاع سعر صرف الضمير أيَّامَها.
ذاك المُعارض لا نحتاجه،.. نحتاج مُعارضا وطنيا بشموخ أحمد وصفاء سريرته النضالية، إني لأبخل به على التقاعد.. وقد عضَّدَت شواهد الواقع اليوم أنَّ عمر الرجل القابل للترشح، كان من ضمانات بقاء المعارضة على قيد الحياة والاستحقاقات...
.........
أطال الله في عمره.