وسط زحمة سير القاهرة المكتظة غالبا ،لا سيما هذه ألأيام ،التي غمرت فيها السيول والفيضانات اجزاء عديدة من المدينة،كنت أجلس جنب سائق التاكسي المصري ،الذي يبحث عن موطأ عجلة لسيارته ،ليوصلني الى المطار لعلي أدرك رحلة الخرطوم ،في هذه ألأثناء كنت أتصفح مواقع التواصل ألإجتماعي في بلدي ،عندما غشيني ذلك الخبر الصادم حقا ،والذي يعزي ناشره في وفاة المغفور له بإذن الله سيدي الراجل ولد سعيد ،
إنتابتني حالة من الذهول ،وأنا أتلقى هذا الخبر ،لما للرجل من مكانة في قلبي، ولما له من رمزية عالية في نفوسنا نحن معاشر اهل الطريقة التيجانية وفيضتها الإبراهيمية .
لست هنا بصدد التعريف بالبعد الاجتماعي العريق لهذا الفقيد الجلل ،المتجذر في أصلاب بيوتات وبطون العروبة ،وما يميزها في بلادنا من شهامة وإباء ضيم ،و مكارم أخلاق ،لاسيما مجتمع بني دمان ،فهذا معروف لله الحمد ،وسارت به الركبان شرقا وغربا وجنوبا وشمالا . .
ما أريد أن أحاول إبرازه هنا في هذه السطور ،هو ذلك البعد ألآخر للرجل ،والذي قد لا يكون البعض على علم به ،ألا وهو البعد الروحي للفقيد ،وما يميزه من استقامة كاملة على شرع الله ،وولاية ،ومعرفة بالله ، ومحبة لشيخ الاسلام الشيخ ابراهيم انياس ،فالرجل إسما وصفة ،لا يقاس ،الا بذلك الرعيل ألأول من أهل الفيضة ،الذين سبقوا الى الشيخ ،وتباروا في محبته وخدمته ،ونشر رسالته بالحال قبل المقال ،فقد كانت لي مع هذا العلم الفياض ذكريات عجيبة لا تنسى ،تعود إلى أكثر من ثلاثة عقود من الزمن. أجل أقول الفياض ،لأنك عندما تسمعه يجول ويصول في تفسير شيخ الاسلام للقرآن الكريم لا بد أن تذهل لتملكه ناصية الرواية ،وهو الجندي السابق ،فجميلة هي تلك المجالس التي كنت أستمتع بحضورها معه ،إما بمناسبة زيارات أبناء أو خلفاء الشيخ ،أو عندما كنت أزورهم في بيتهم العامر ،خاصة عندما كنت أرافق والدي وشيخي شهيد محبة الشيخ وخديمه سيدي محمد المختار ولد الحاج رحمه الله ،الذي أتذكر أنه كان حريصا خلال زياراته لنواكشوط على زيارة حبيبين له في الله هما ،المغفور لهما عبد الجليل ولد اخليل والراجل ولد سعيد ،وغالبا ما شرفني بأن اكون سائقه خلال هذه الزيارات ،التي كانت تنثر خلالها كنوز من ذلك النوع من العلوم الذي لا يكتب في الأوراق ولا ينظر بالأحداق ،ولا يؤتى الا من باب الإلهام والذوق ،وتتميز مداخلات المرحوم الراجل ولد سعيد في هذه المجالس دائما بالجمع بين الطرافة والصدق ورسوخ الاقتناع بالمدرسة الروحية .
أستحضر من تلك الأحاديث التي لا تمل ،إنه قال لنا مرة إن سبب إطباء الفيضة له لأول مرة ،كان رحلة رافق فيها سيدي الشيخان من لعيون ،حيث كان يعمل ان ذاك كعسكري ،الى تامشكط التي أراد أن يوصل لها سلالة الشيوخ ذوي القدم والرسوخ سيدي الشيخان ،وفِي الطريق ،وهو يجلس جنب سيدي الشيخان ،دار بينهما حديث عن الطريقة وشيخ الاسلام ،وبقى تأثير تلك الردود التي كان يسمعها من سيدي الشيخان على الأسئلة التي كان يوجهها له ،ماثلا في تفكيره ،مما حدى به الى زيارة مدينة الشيخ بعد ذلك بفترة وجيرة ،وكان لقاؤه بالشيخ لأول مرة،"فكان ما كان مما لست أذكره فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر" وهنالك بدأت رحلة اللاعودة .
كذلك حدثنا مرة ،أنه لما بدأ إشعاع الفيضة التجانية يتسرب الى أحياء بني دمان ،وظهرت الحالات ألأولى من الفناء في ذات الله عند بعض المنتسبين الجدد ،أعاب البعض من غير المتحمسين لهذا المد الجديد هذا السلوك ،وأوشى ،عفا الله عني وعنه ،مشوها حقيقة الامر ،للحاكم الفرنسي ان ذاك في بتلميت ،فأستدعاه الحاكم الفرنسي ومعه أحد اهل الطريقة في الحي لا تسعفني ذاكرتي الان بتذكر إسمه ،وكان الحاكم الفرنسي في تلك الايام لما تطرح عليه نازلة ذات طابع اجتماعي وديني يستدعي أعيان لمقاطعة لمساعدته عند ألإقتضاء في إيجاد الحل المناسب ،فلما جاء الراجل ورفيقه وجدوا أمامهم عند باب الحاكم أعيانا أذكر منهم الشيخ عبد الله ولد الشيخ سيديا، والزعيم محمد بونا ولد محمد سيد احمد ،والوجيه عبد الله ولد نجم الدين الجكني وآخرين لم أعود أتذكرهم ،دخل المتهمان بمفردهم على الحاكم ،فسألهما هل تريديون فرض قناعاتكم الدينية على غيركم ،هل تحولون دون ممارسة الاخرين لشعائرهم الدينية ،فردوا بالنفي ،موضحين بأسلوبهم المرح أنهم هم من تُماررس في حقهم هذه الأمور ،فقال لهم الحاكم إن القانون الفرنسي يكفل حرية الناس في ممارسة معتقداتهم الدينية ،إذهبوا فلا شيء عليكم ،فخرجنا من عنده ،يقول الراجل ،فرحين منتصرين ،عند الباب ،سألنا ألأعيان عما دار بيننا مع الحاكم ،فقصصنا عليهم ما جرى فضحك الشيخ عبد الله ضحكا شديدا من طرافة ردودنا على الحاكم . كذلك سمعت المغفور له بإذن الله مرة يقول ،إنه كان مرةً مع سيدي محمد المشري منفردين ،فسأله المشري عن فهمه في قول الله تعالي "ذلك بأن الله هو الحق وأن ما تدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير "فلما رد عليه بتذوقه لهذه الآية ،علق بقوله "قطعا هذا ما نك مسترويه "بمعني لم تكسب هذا الفهم من باب الرواية وإنما أوتيته من باب الدراية .
رحم الله السلف وبارك في الخلف ،تعازينا القلبية لأنفسنا أولا اهل الطريقة والفيضة ،ثم لأهل البيت رجالا ونساء ،والمجتمع كافة.
احمد سالم ولد احمد
الخرطوم 26 اكتوبر 2019 .