ثقوبٌ على جدران الخطاب...
لا أخفيكم سرّا، ملأ الخوف عينيّ وأنا أرمُقُ عيون الرئيس جيئة وذهاباً وهو يقرأ خطابه على شاشة التلفاز مستعرضاً الخطّة الوطنية لمكافحة جائحة كورونا في ظرف حسّاس يستدعى من الجميع التأمل والتفكير في مستقبل العالم وما تخبئه الأيام القادمة من تداعيات وتقلّبات..
كنت أفكر قبل أن أسمع ، وأسمع قبل أن أفكر وكنت قبل هذا وذاك أقترح وأصحّح في هذيان مع النفس وصل ذروته مع أخر كلمة في الخطاب حتى تمثّلتُ قول الشاعر:
تكاثرت الظباء على خداش ..
فما يدري خداشٌ ما يصيد ..
من وجهة نظر مهنية، أعتقد أن الإجراءات التي أعلن عنها رئيس الجمهورية البارحة في خطابه الموجه للشعب لم تكن صائبة في مجملها خصوصا في جانبها الإقتصادي الذي ينبغي أن يكون جوهر الخطة في مواجهة أزمة عصفت بإقتصاد العالم وقلّمت أظافره في وقت قياسي إلى أبعد الحدود..
وفي هذا الإطار، خرجت بجملة من الملاحظات سأحاول تلخيصها في النقاط التالية:
- الإجراءات التي أُعلن عنها في مجملها تتطلب وقتا للتطبيق مما يتعارض مع خصوصية المرحلة والتي تتطلب منا خِطّة إستعجالية يمكن تنفيذها من اليوم الأول.
- غياب تام لدعم الطواقم الطبية التي تقع في الخطوط الأمامية من المواجهة وتتعرض للخطر أكثر من غيرها، هؤلاء كان ينبغي أن تضاعف رواتبهم على الأقل في هذه المرحلة لتشجيعهم على التصدي لهذه الجائحة.
- غياب تام كذلك لدعم القوات المسلحة وقوات الأمن التي تسهر على تطبيق حظر التجوال وحماية الحدود من المتسلّلين من الدول المجاورة في محاولة لتطويق الفيروس ومحاربته..
- إعفاء التجار من الضرائب والرسوم الجمركية على بعض المواد الأساسية يمكن أن يكون أكثر جدوائية لو كان إعفاءاً لجميع الموظفين و العمال في القطاعين العام والخاص من ضريبة الأجور التي تثقل كاهل العامل بشكل كبير في هذا البلد بنسبة تصل 40% في بعض الأحيان، ففي حين أن إعفاء العمال من الضريبة يدعم بشكل مباشر طبقة مهمة من المواطنين يقع عليها العبء الأكبر في الدورة الإقتصادية يبقى إعفاء التجار مجرد إطلاق عنان لهؤلاء للتلاعب بالأسعار والتّربح على حساب الآخرين.
- لم أفهم اختصار الإعانات المالية للأسر الفقيرة على مدينة أنواكشوط وكأن بقية الفقراء في مأمن من تداعيات المرحلة ، في حين أن فرص العمل أكثر في العاصمة من بقية الوطن، وأما الإعانات فكان ينبغي أن تكون في شكل سلاّت غذائية متكاملة توزع بشكل عادل على جميع المواطنين من أجل تشجيعهم على البقاء في البيوت.
- نسيّت الخطة تخفيض أسعار المحروقات والتي يمكن أن تستخدم كأداة في خفض الأسعار بشكل عام من خلال انخفاض تكلفة نقل البضائع بين المدن و تشجيع المعامل والصناعة الوطنية التي قد نحتاج إليها في وقت لاحق، لا قدّر الله، في حالة تفاقم الأزمة على المستوى الدولي.
- وفيما يخص القطاع المصرفي كان ينبغي علي الحكومة أن تصدر قراراً يقضي بتحمل أو تجميد كافة أقساط ديون العمال والموظفين المستحقّة عند البنوك و المؤسسات المالية مدة الأزمة مقابل تسهيلات يقوم بها البنك المركزي لهذه المؤسسات.
- أخيراً، خطأ فنّي ورد في كلمة " تحمُّل" في خطاب الرئيس التي حلّت محلّ " إعفاء" من الضرائب والرسوم الجمركية، فمن غير المعقول أن تتحمّل الدولة نفقة هي من يفرضها أصلا وكانت ستعود إليها، وإلا فلا معنى للجملة على الإطلاق في القاموس الضريبي.
لا نلوم الرئيس على هذه الشاردة أو تلك بقدر ما نلوم المهنيين من مستشارين وأصحاب تخصص ممن حَجَبُوا شموس العطاء في هذه الأرض عن الشروق وضلّوا الطريق في أكثر من مناسبة ، فمتى سنُعطي القوسَ باريها؟..
ربنا لا تهلكنا بذنوبنا ولا بذنوب غيرنا
ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون..
اللهم اصرف عنا مقتك وغضبك ..
عيسى ولد أعليت.
المدير المالي لبنك قطر الوطني QNB
فرع موريتانيا.
أنواكشوط 26 مارس 2020