محمد البصيري... المغربي الذي أسس المقاومة فى الصحراء

اثنين, 21/12/2020 - 17:36

 

بثت قناة «ميدي 1» فيلماً وثائقياً يكشف واحداً من أهم الملفات في تاريخ الصحراء المغربية، حول شخصية «محمد البصيري» الذي أسس في نهاية ستينيات القرن الماضي أول حركة مقاومة وطنية في الصحراء، واجهت الاستعمار الاسباني، فاعتبره الاسبان رأس حربة مقاومتهم، وهو الذي ولد في سفوح جبال الأطلس، وشكل جسراً حقيقياً بين جنوب وشمال المغرب.

 

وتطرق الفيلم الوثائقي لجبهة البوليساريو التي تقدم نفسها على أنها الوريث الشرعي لنضال «البصيري»، ومع ذلك كانت تخشى خروجه من السجن، ولم تطرح قضيته خلال مفاوضاتها مع المستعمر الاسباني، فمن هو «محمد البصيري» الذي أيقظ في الصحراويين جذوة النضال السياسي ومقاومة الاستعمار الاسباني ؟

لقد ولد «محمد البصيري» عام 1942 في زاوية والده «الشيخ سيدي إبراهيم البصير» بقرية بني عياط في جبال الأطلس، غير بعيد من مدينة مراكش التاريخية، وسط المغرب، وما تزال هذه الزاوية قائمة حتى اليوم، يوجد بها ضريح والده وعدد من أفراد أسرته.

كان والده من شيوخ الطريقة الشاذلية الدرقاوية، وأحد فقهاء المذهب المالكي، وهو من عشيرة «المؤذنين» التي تعود في أصلها إلى «سيد أحمد الركيبي»، جد قبائل الركيبات بجميع فروعها، وهي إحدى القبائل المشهورة بالعلم والتقوى، ومقاومة المستعمرين الأجانب.

وفي مكتبة زاوية الشيخ سيدي إبراهيم البصير، توجد وثائق ومخطوطات تثبت البيعة والروابط مستمرة بين أعيان قبائل الصحراء المغربية والسلاطين العلويين، وظهائر ملكية أورثها الأجداد إلى أبنائهم حتى اليوم، وفق ما يؤكد عبد المغيث البصيري، ابن أخ «محمد البصيري»، رافضاً السردية التي تقدمها البوليساريو بخصوص عمه.

 

بداية الرحلة

كان «محمد البصيري» هو أصغر إخوته، توفي عنه والده وهو في الثالثة من العمر سنة 1945، فتولى تربيته أخوه الأكبر، الذي كان خليفة والده في الزاوية، فحفظ القرآن وبعض العلوم الشرعية، ولكنه أظهر منذ البداية طموحاً ورغبة في اكتشاف الأفق البعيد، فتوجه إلى مدينة الرباط، حيث تلقى تعليماً عصرياً في مدرسة بحي التقدم.

خلال دراسته في مدينة الرباط مطلع ستينيات القرن الماضي، كان يقيم مع أحد إخوته يعمل في القصر الملكي، ويصفه أحد أبناء إخوته بأنه «كان أنيقاً ومثقفاً».

 

حصل «البصيري» على منحة دراسية مغربية إلى القاهرة بجمهورية مصر العربية، وهناك بدأ وعيه السياسي يكبر، وأظهر حماساً لخطب الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر، مع حب كبير للثقافة المصرية، وعشق خاص لصوت كوكب الشرق أم كلثوم، كل هذه التحولات التي طرأت على شخصيته كان ينقلها بصدق إلى أخيه في رسائل دورية يكتبها من القاهرة إلى الرباط.

 

عاد «البصيري» إلى المغرب عام 1966، وهو يحمل معه إجازة في العلوم الشرعية من الأزهر الشريف، وإجازة في العلوم السياسية وأخرى في الصحافة، كما نسج علاقات مع وجوه ثقافية وفكرية من لبنان وسوريا، فتوسعت مداركه وأصبح أكثر نضجاً.

 

اختار «البصيري» أن يقيم في الدار البيضاء، المدينة التي يمكنها أن تسع أحلامه وطموحاته، وقد اختار لذلك «الحي المحمدي» الذي كان قبلة الموهوبين وأصحاب الأحلام الكبيرة، ومن دار الشباب بالحي أطلق مجلة «الشموع» بدعم من المجلس البلدي للحي، ثم أصدر بعد ذلك مجلة «الأساس».

 

كان «البصيري» وهو صحفي شاب في الرابعة والعشرين من العمر، يتابع الأحداث في فترة مضطربة، خاصة وأن اسبانيا أعلنت نيتها تحويل الصحراء إلى إقليم إسباني بشكل دائم، خبرٌ شكل منعرجاً في حياة ونفسية الشاب، يقول أحد أفراد عائلته: «هذا الخبر هزه من الأعماق، فقرر أن يرتحل إلى الصحراء».

 

بالفعل، سافر «البصيري» إلى الصحراء، فوصل مدينة السمارة سنة 1968 ليقيم عند أبناء عمومته، ولكن وصوله لفت انتباه السلطات الاسبانية التي اعتقلته وحققت معه، وبتدخل أبناء عمومته أفرج عنه ومنح إقامة مؤقتة، فلم يكن محل ترحيب لدى الاسبان، خاصة وأنه شاب مثقف يحمل ثلاث إجازات في علوم مختلفة، وفق ما أكد سيد أحمد رحال، رفيق «البصيري» في مقاومة الاستعمار الاسباني.

 

لقد كانت مخاوف الاسبان في محلها، فالشاب الهادئ والذكي، كان يخطط لعمل سري غير مألوف في المنطقة، وكانت الأرضية ملائمة لمخططه، لأن اسبانيا التي احتلت الصحراء لأكثر من قرن تركت السكان يرزحون تحت الفقر والبؤس، منشغلة بالتنقيب عن النفط والمعادن.

 

كان المغرب في تلك الفترة يخوض حرباً دبلوماسية شرسة ضد اسبانيا لإرغامها على الخروج من الصحراء، ونجح الملك الراحل الحسن الثاني سنة 1964 في أن يقنع لجنة تصفية الاستعمار التابعة للأمم المتحدة بإصدار قرار ينص على نفي أي تبعية تربط الأقاليم الصحراوية باسبانيا، عندها بدأ الموقف الاسباني يزداد صعوبة.

 

في حين كانت اسبانيا تتلقى الهزائم الدبلوماسية في المحافل الدولية أمام المغرب، كان «البصيري» يعمل بصمت في الميدان لتأسيس أول حركة مقاومة وطنية مغربية في الصحراء، ظلت لسنوات تعمل في السر وتنتظر اللحظة المناسبة لإرباك مخططات الاسبان.

 

يتحدث من عرفوا «البصيري» خلال تلك الحقبة، عن قدرته الكبيرة على جذب الناس إليه بأخلاقه وتربيته الروحية والعلمية، وتعاليه عن النزعات القبلية الضيقة، وأفقه الوطني الجامع، ويقول رفيقه سيد أحمد رحال: «كان سلوكه عجيباً، فلم يواجه أي معارضة، لأنه كان يعرف التعامل مع الأشخاص، فأسس جهازاً سرياً انخرط فيه كثير من أهل الصحراء».

 

في السياق ذاته يقول نور الدين بلالي، وهو قيادي سابق وأحد مؤسسي جبهة البوليساريو، إن «البصيري كان أول من أسس حركة سياسية وطنية في الصحراء، ملأت الفراغ الذي كان موجوداً، وقد خدمه في ذلك سلوكه وأخلاقه وتربيته، وهو ابن الزاوية الصوفية، يملك قدرة عجيبة على كسب قلوب الناس بالمودة والقرب منهم».

 

لحظة المواجهة

 

ظلت الحركة تنمو ببطئ ولكن بنضج، فيما كان المستعمر الاسباني منشغلاً في معاركه الدبلوماسية ضد المغرب، حتى قررت اسبانيا تنظيم حفل تعلن فيه رسمياً ضم الصحراء إلى أراضيها وبشكل نهائي، وقررت جلب وفود صحفية من أوروبا والولايات المتحدة، لإظهار دعم السكان المحليين للقرار.

 

كانت «منظمة تحرير الصحراء» حينها تتخذ من مدينة السمارة مقراً لها، لديها مكتب ومبادئ وأهداف، وانخرط فيها عدد كبير من سكان الصحراء.

 

وفيما كانت اسبانيا تخطط للحفل في مدينة العيون، وجد «البصيري» الفرصة سانحة لتنظيم أول نشاط علني للمنظمة السرية، فقررت تشييد خيام في الحي الحجري بالقرب من مدينة لعيون، ونجحت في استقطاب عدد كبير من السكان، حتى الوفود التي جلبتها اسبانيا، فطلب الاسبان من المنظمة تفكيك المخيم، والتوجه نحو المهرجان الآخر المنظم من طرف السلطات الاسبانية، والذي يحضره الجنرال، ولكن الحركة رفضت، بل إنها فاجأت المستعمر بمظاهرة ترفع لافتات وشعارات مناهضة له، صورها الصحفيون الذين جلبتهم اسبانيا لتغطية مهرجانها.

 

تدخلت الشرطة والجيش الاسبانيين، وأطلقوا النار على المتظاهرين، ليسقط ثلاثة قتلى وعشرات الجرحى، وجرت اعتقالات واسعة، حاولت خلالها المنظمة تهريب «البصيري» خارج الصحراء، ولكنه رفض قائلاً: «معاذ الله.. والله لن يقولوا إنني ألقيت بأولادهم إلى التهلكة ونجوت بنفسي»، في نفس الليلة اعتقلته السلطات الاسبانية ليتخفي إلى اليوم.

 

يقول ميغيل أورتيز، وهو عضو سابق في الاستخبارات الاسبانية في الصحراء المغربية، إن التحقيقات التي أجريت مع المعتقلين أصابت الاسبان بصدمة كبيرة، لأن العديد من الذين كانوا يعملون معها وتثق فيهم، نجح «البصيري» في تجنيدهم لمنظمته الوطنية، وساهموا في تنظيم الانتفاضة.

 

لغز الاختفاء

 

كان سيد أحمد رحال هو آخر من شاهد «البصيري» في السجن، ساعات قبل اختفائه، وقال إنه تعرض لتعذيب بشع، وآثار الضرب ظاهرة على وجهه ورجليه، ويسرد تفاصيل آخر مرة يشاهده فيها: «ليلة 14 أغسطس 1970، أيقظني صوت أبواب تفتح وهمسات أفراد من الأمن الاسباني، قبل أن يمر من أمام زنزانتي البصيري، وهو يرتدي دراعة زرقاء، ويضع لثاماً حول عنقه، وفي يديه أغلال من حديد، وحارس يمسك بذراعه، كنت آخر من شاهده».

 

لقد اختفى «البصيري»، وأطلقت اسبانيا العديد من الشائعات حول مصيره، كما يقول نور الدين بلالي: «تارة كانوا يقولون إنهم سلموه للمغرب لأنه مغربي، وتارة أخرى يقولون إنه فر من السجن، ويوزعون صوره على أنه مطلوب للأمن، ولكن هناك ضباط اسبان قالوا إنه أعدم ودفن في الكثبان الرملية الواقعة غربي مدينة العيون».

 

أما ضابط الاستخبارات الاسباني أورتيز فينقل عن زميله السابق في الإدارة السياسية الداخلية بمدينة العيون، خوسيه دييغو أغيري، أن «البصيري لم يعبر الحدود قط»، لتبقى الحقيقة غير معروفة، رغم الجهود الكبيرة التي تبذلها عائلة «البصيري» التي أوكلت محامين بمهمة البحث عنها.

 

عائلة «البصيري» تستغرب «تزوير» جبهة البوليساريو لتاريخ ابنها، وهي التي تأسست 3 سنوات بعد اختفائه، حين تقدمه على أنه «الأب الروحي» لها، ويقول عبد المغيث البصيري: «بعد اختفاءه سنة 1970، ادعت البوليساريو باطلا وزوراً، وبدون أي دليل، أن محمد البصيري هو زعيمها الروحي، وأنه أوحى لها بفكرة الانفصال»، ولكن بلالي وهو أحد مؤسسي البوليساريو ينفي ذلك، ويقول: «فكرة الانفصال لم تكن مطروحة آنذاك، حتى البوليساريو في بداية تشكيلها، لم تكن لديها فكرة الانفصال».

 

ويضيف عبد المغيث: «البوليساريو سبق وتبادلت الأسرى مع الاسبان، في المحبس، ونحن كعائلة نسألها: لماذا لم تطالب قيادة البوليساريو بمحمد البصيري كشخص ؟، لماذا لم يطالب به مطصفى الولي ؟، لماذا لم تطرح مطلب الكشف عن مصيره ؟»

 

لقد كان عدد من مؤسسي جبهة البوليساريو أعضاء في الحركة التي أسسها «البصيري» نهاية الستينيات في الصحراء المغربية، وكانوا يدركون موقفه من مغربية الصحراء، وخلال السنوات الأولى من اختفائه كانوا يخشون عودته لأنه سيسحب من تحتهم البساط، ذلك ما يؤكده بلالي: «لقد كانوا في السنوات الأخيرة من الوجود الاسباني يخشون خروج بصيري من السجن، لأنه معروف في الساحة وسبقهم للنضال، وموجود على الأرض وفي الميدان، بينما هم يوجدون في الخارج ويناضلون عن طريق المراسلة».

 

خلص بلالي إلى القول إن جبهة البوليساريو وبعد أن خرج المستعمر الاسباني من الصحراء، تأكدت من أن احتمال عودة «البصيري» أصبح ضعيفاً، فسعت إلى استغلال اسمه وتاريخه سياسيا وإعلاميا، وقدمته على أنه «الأب الروحي» لنضالها، رغم أنها تجاهلته لسنوات عديدة فاوضت خلالها الاسبان لتبادل الأسرى، دون أن تطرح سؤالاً واحداً عن حقيقة ما تعرض له.

 

وتقدم سرديات جبهة البوليساريو «محمد البصيري» على أنه من مواليد مدينة «طانطان»، وهي عملية تزوير حسب رأي نور الدين بلالي، وهو أحد مؤسسي الجبهة، حين يقول إن ما قامت به هو «محاولة لتكييف التاريخ والجغرافيا مع أطروحة سياسية ضعيفة».