إذا كان المراقبون ينظرون إلى وصول الرئيس السنغالي الجديد بشيرة افاي للسلطة على أنه تناوب ديمقراطي من النوع المتعارف عليه تقليديا، وهو ما عرفته السنغال خلال سباقين رئاسيين سابقين كللا بتغيير مؤجر القصر الرئاسي، فإن بعض المحللين لا يوافقون هذا الرأي تماما.
فعلا حصل التغيير في السنغال من حيث الشكل وفقا للآليات الديمقراطية التقليدية على النمط الغربي، إلا أنه يحمل في جوهره انقلابا واضح المعالم على المنظومة السياسية في البلاد ولاعبيها الذين ظلوا يتداولون وبطريقة سلمية، السلطة على مدى أكثر من ستة عقود ويمارسونها وفقا لنظام الحكم الذي ورثوه عن أسيادهم الفرنسيين، فما غيروا وما بدلوا، فكان المتابع للشأن السنغالي طيلة تلك الفترة أمام أسماء متغيرة ومسميات ثابتة.
هذه المرة حدث "انقلاب" لكنه ناعم وبطريقة تختلف تماما عما تعودنا عليه في انقلابات افريقيا، ولا أدل على ذلك من كون قادة الانقلاب جاءوا من السجن، بينما قادة الانقلابات التقليدية يكون السجن وجهتهم إن فشل انقلابهم.
جاء القادة الجدد وفي ايديهم مكنستهم، كشكل من اشكال التعبير عن التصميم على إزاحة كاملة وكلية للمنظومة السياسية التي كانت قائمة في السنغال بفرنسا ومن اجل مصالح فرنسا، وهنا التقى قادة هذا الانقلاب الناعم في اهدافهم مع قادة الانقلابات الخشنة التي سبقتهم في مالي وغينيا وبوركينا فاسو والنيجر التي شعار الجميع فيها "لا لفرنسا" وكانت هذه الانظمة العسكرية قد أزاحت الأنظمة المدينة التي أفرزتها قمة "لابول" وأخفقت في وضع تلك البلدان على المسار الصحيح للتنمية.
لست هنا بصدد الخوض في ما سيؤول اليه أمر قادة السنغال الجدد، هل سيكسبون الرهانات ويرفعون التحديات الكثيرة التي تنظرهم؛ الحفاظ على الانسجام بين رأسي النظام، مدى قدرتهم على تسيير الدولة وهم حديثو السن وعديمو التجربة في قيادة أروقة وإدارات مؤسسات ومرافق الدولة، هل سيتحول برنامجهم الانتخابي الرائع الذي اطلعت عليه الى شعارات شعبوية لا تقدم ولا تؤخر، وقد ملها شعبهم على ألسنة اسلافهم من القادة السابقين، أم سيشكلون استثناء ويوفقون في تحويل وعودهم الانتخابية الى انجازات ملموسة، هل سيحصلون على الوسائل المالية والتكنلوجية الضرورية لذلك، وهل ستمنحهم الجماهير المطحونة التي اوصلتهم للسلطة، خاصة الشباب السنغالي المتلهف لقيادة توفر له تشغيلا لائقا وتنقذه من الموت المحتوم بين امواج الأطلسي المتلاطمة في طريق حلم للهجرة الى القارة العجوز، طلبا للقمة العيش الشريف، الوقت الضروري للاستجابة لتلك التطلعات، وهل ستمهلهم فرنسا إن استطاعت الى ذلك سبيلا، ليسلبوها واحدا من آخر اوكار خلية الإليزي في شبه المربع الفرنسي.
أسئلة كثيرة وتحديات كبيرة تخالج أذهان الكثيرين، وأنا منهم، إلا أني لن أخوض فيها هنا، فالمستقبل المنظور كفيل بالإجابة عليها، فما يهمني هو جزئية واحدة، وقد تكون صغيرة بالنسبة للبعض، ألا وهي النوايا الحقيقية للنظام الجديد في جارتنا الجنوبية تجاه بلادنا، فكثرت الأقوال والأدلة عليها إن لهم أطماعا في بعض خيراتنا خاصة الغاز إذ يقولون أن توزيع الحصص الحالي ليس عادلا وأن المنجم يقع جزئه الأكبر في مياههم الإقليمية وأن مفتاح التوزيع يجب ان يكون عدد سكان كل بلد،، كما يشاع كذلك أنهم يعتزمون العودة إلى إعادة فتح ملف البحيرات الناضبة،.
وهذا ما يعنى إن صح، أن العلاقات بيننا قد تعرف مرحلة جديدة من التوتر يحتاج التعاطي معها للجمع بين اللين والصرامة في آن واحد، خاصة أن تلاقي هؤلاء القادة مع جيراننا في الشرق من الحكام العسكريين في الموقف من فرنسا، التي ما زال ينظر إلينا أننا نحن الحليف الوحيد المتبقي لها في شبه المنطقة، ينذر بأن أية غيوم تتلبد في سماء علاقاتنا مع السنغال في هذه المرحلة قد تؤدي الى عزلتنا في محيطنا الإقليمي جنوبا وشرقا، أما محيطنا الشمالي الذي هو عمقنا الحقيقي، فالاعتماد عليه غير ممكن في الوقت الراهن بسبب الصراع العميق بين جارتينا الشماليتين الذي يجعل أي تقارب لنا مع إحداهما تحسبه الأخرى أنه على حسابها، وهذه فاتورة كبيرة نحن في غنى عن دفعها.
يكاد يكون هنالك إجماع على أن هذا التغيير في السنغال جاء وأحوالنا السياسية والاقتصادية والمجتمعية ليست في المستوى الذي نطمح اليه، مما يجعل الاستراتيجية التي سنواجه بها أي استفزاز محتمل من طرف جيراننا مهما كانوا يجب أن نبنيها على اعادة بناء بيتنا الداخلي على أسس سليمة منها:
1- محاربة فعلية للفساد والرشوة تبدأ بتسامي نخبنا عن أكل المال العام وتربية أولادهم به "اخوخ"
2- خلق أطر نظيفة للممارسة السياسية تتوزع فيها الأدوار على أساس نزيه وشفاف بين المعارضة والموالاة بحيث يكون المعارض معارضا للبرامج والممارسات وبطريقة راقية لا للأشخاص أو المجتمعات ويكون الموالي مواليا للبرامج والتوجهات بعيدا عن التزلف والنفاق، ويقول لا بارك الله لي في وظيفة او ترقية تنال بالتصفيق،
3- إفشاء ثقافة التداول على ممارسة الأدوار السياسية بشكل يفتح المجال للكفاءات الشابة لتصل الى السلطة ويؤدي الى تراجع نفوذ القيادات القبلية وتحكمها في إرادة عامة الناس من ذوي الوعي المحدود،
4- اختيارات من يتقلدون الوظائف العامة سواء كانت فنية أو إدارية أو تسييريه على اساس الكفاءة والنزاهة والإيمان بالدولة والولاء لها بعيدا عن الزبونية والعلاقات الاجتماعية، ومن المحبذ أن تكون هنالك فيئة من الوظائف السامية غير السياسية كإدارة المؤسسات والمشروعات الكبرى تفتح للمنافسة من خلال تقديم سير ذاتية تشفع بإجراء مقابلة للمتقدمين ذوي السير الذاتية الأكثر اقناعا كما هو معمول به في بعض المنظمات الدولية والإقليمية،
5- منح الصفقات العمومية على أساس المنافسة الشفافة مع السهر التام على مراقبة حسن التنفيذ،
أعتقد أن مثلا هذه الاصلاحات وغيرها من شأنه أن يحدث المصالحة المنشودة، والتي طال انتظارها بين الدولة وطيف واسع من الغيورين المشفقين على مصير البلد في هذا البحر ذي الأمواج المتلاطمة من التقلبات الإقليمية والدولية التي هزت عروش كبريات الدول، كما أن هذه الإصلاحات ستسهم لامحالة في خلق لحمة قوية لجبهتنا الداخلية تكون درعا منيعا تتحطم عليه كل الأطماع الخارجية مهما كان نوعها سواء كان مصدرها طرفا خارجيا قريبا أم بعيدا ومهما كانت المشروعية التي يستند اليها، كما أن من شأنها أن تكسبنا الاستجابة لشروط أساسية لنصبح دولة صاعدة، فليس لدى روندا من مقدرات الصعود أكثر مما لدينا سوى أن كاكامي أعلنها حربا لا هوادة فيها ضد الفساد والمفسدين، فنال ولاء شعبه وثقة شركائه الخارجيين .
أما إذا لا قدر الله، لم نسلك نهجا إصلاحيا حقيقيا مقنعا لشعبنا، فسنظل ندور في هذه الحلقة المفرغة التي ندور فيها منذ أكثر من ستين سنة وجعلتنا نظل جاثمين في أسفل سلم مؤشرات قياس التنمية في كل القطاعات.
وإن استمر ذلك الوضع، فإن مستقبل البلاد سيكون غامضا وغامضا جدا، ولن يبقى التخوف في هذه الحالة على تنمية البلد وازدهاره، بل سيصبح على قدرتنا المحافظة على بقاء كيانه كدولة، وما مثال السودان الذي تجمعنا معه قواسم مشتركة كثيرة عنا ببعيد، حيث أصبح بين طرفة عين وانتباهتها هباء منثورا بعد أن نخرت جسم الدولة فيه نفس السوسة التي تنخر جسمها لدينا منذ عقود.
للمعلومية لدي صديق من ذلك البلد و من ألمع كفاءاته وكان حتى شهر ابريل الماضي يرفل في نعم الله في يسر تام، فوقع البلد في ما وقع فيه واستطاع أن يفر وأهل بيته من ذلك الجحيم الى إحدى الدول المجاورة، فبقينا على تواصل وأقدم له من وقت لآخر بعض الاعانات، قال لي هذا الصديق في الأيام الاخيرة أنه إن وجد عملا كمناول في أحد المطاعم لن يتردد حتى يوفر لقمة العيش لصغاره، ففاضت عيناي دمعا من تذكر ما كان عليه حاله وما اصبح عليه، واصابني ارتعاش داخلي خوفا من أن نوجد، لا قدر الله يوما من الأيام في مثل أوضاع إخوتنا السودانيين اليوم فرج الله كربهم وجنبنا ما آلت إليه أوضاعهم .
"ولا تقلب دهرنا علينا بجاه من أرسلته إلينا يا مقلب الأحوال "
أحمد سالم ولد احمد
الرباط 27 مارس 2024
.