منذ أسابيع أقرأ في الإعلام إشاداتٍ ووَقَفاتٍ مشوِّقة مع "رحلة مع الحياة" (مذكِّرات) للدكتور والعلامة محمد المختار ولد ابّاه، وتلهّفتُ للحصول على الكتاب على الرّغم من تجربتي مع عدد من المذكّرات غير المشجِّعة على متابعة قراءتها والبحث عنها، فقد قرأت قبل سنتين مذكّراتِ أستاذ من أشهر المحقِّقين لكُتُب التراث، فلم أُلف فيها بُغيتي من الإثارة وقَصَص المغامرات والمناظرات والأسفار المُمتِعة والمشاهد المُفزِعة.. إلخ.
ساق القدَرُ إليَّ مذكّرات "ابنِ الدّيمانية"، وقرأتُها من الألف إلى الياء، فكانت "رحلةً مع الحياة" أوقدت فيّ جذوة الحماس من جديد لقراءة "المذكّرات"، وأعادت إليّ الإمتاعَ والمؤانسة بتملِّيها ومطالعتها، إنها "رحلة" جميلة، تأخذُك بسلاسة الأسلوب وجمال التعبير، فليس في لغتِها إسفاف ولا تعقيدٌ؛ وفيها برهانٌ جليٌّ على التجربة الثريّة للكاتب مع التأليف والكتابة، والبراعة في السرد والترتيب، وتأسرُك بالخوض في تجربةِ حياة فريدة مليئة بالنجاح والمغامرة والإنجاز والتطواف في مناكب الأرض.
لم أكن غريبا على جلِّ أحداث المذكّرات وشخوصها ومواضعها.. فكنت أستحثّ في قراءتها الخُطَى وكأنني أتلهف إلى لقاء حبيب طال الشوقُ إليه خلف كلّ فصل من فصولها، ذلك لشهرة صاحبِها، ولأنني من أبناء بعض الأحياء التي استُرضِع فيها المؤلِّفُ – بتعبيره – وأُشرِبوا في قلوبهم محبّتَه ومحبّةَ أسرتِه، أتذكّر وأنا صغير جدّتي والدةَ أمِّي عليها من الله الرحمات لا تسمعُ ذكرا لآل ابَّاه إلّا تضرّعت إلى ربّها داعيةً لهم بكل خيرٍ، وقد ربطت الجدَّ العلّامة محمّد ولد إبراهيم المنصوريّ علاقة المودّة بوالده العلّامة محمّد فال (ابّاه) في مدرسة الشيخ المختار ول ابّيّ الجكني الموسانّي، ثمّ تطوَّرت تلمذةً صوفيّةً، ومحبّةً روحيّةً صادقةً تتوارثُها الأجيالُ، ولعلَّه المعنيُّ دون ذكر اسمه بـ"ابن إبراهيم" في كلمة رواها الكاتب عن السيدة الفاضلة مريم السالمه (آمّه) من سيدي.
مع رحلة د. محمد المختار تستمتع بحديث الرّجل الذي يُعَدُّ أحدَ أبرز رجال العلم والسياسة والثقافة.. في موريتانيا الحديثة، وأوّلّ من جمع بإتقان بين ثقافة المحظرة العالمة، وبين الثقافة الغربية بلسانها ومناهجها الفلسفية والأدبية، تستمتع بحديثه بصراحة عن الإخفاقات التي واجهتْه في مسارات متعدّدة من حياته، وحينَ يُسهِب أحيانا في بيان التحدِّيّات التي تصدَّت له، فلا تشعُرُ أنّك أمام شخصيّة استثنائيّة في مواهبها وقدراتها، بل إنّك أمام إنسانٍ موريتانيّ عاش حياةَ الخيمة والبادية بكلّ تفاصيلها من مكابدة "اللوح" ومعافسة "أقفاف" المختصر.. إلى نشدان الضالّة ومقاساة "لحريثه"، ثمّ طمحت به نفسٌ توَّاقة إلى العُلَى إلى أن يبحث عن سبيل سالكة لعيش كريم أضرَّ به الإخفاق في مجالات الزراعة والتجارة فتراكمت الدّيونُ وتلبَّد الأُفُقُ، ولكنّ العزيمة الجادَّةَ لم تستسلم، فكانت العودة الحميدة إلى طلب العلم والتعليم بهمّة لا تلين، ليجلِسَ المدرِّس على مقاعد الدراسة جنبا إلى جنب مع تلاميذه، ثمّ استكمل بعزم مراحل الدّراسة بين النعمه وباريس مرورا ببتلميت وسانلوي والرباط، من الابتدائية إلى شهادة الدكتوراه التي نالها بجدارة وإشادة من لجنة النقاش 28 مايو 1969، ثمّ توّجها بأوّل شهادة تبريز في الآداب العربيّة يحملُها موريتانيٌّ، وبدكتوراه الدّولة من كلّيّة الآداب في جامعة السربون.
كانت حياةُ الرجل مُشرِقةً بالنضال في سبيل تحرير وطنِه من ذُلِّ الاحتلال الإفرَنجِيّ، وتحمّل في ذلك الاغترابَ الطويل، ثمّ كانت عاقبةُ الغربة معاناةَ السّجن والمَرَض، ليعود بعد ذلك أكثرَ حماسا لخدمته في أهمّ ميادين البناء والتنمية، فأشرف الرجلُ بكفاءة عالية على التأسيس الجادّ للمنظومة التربوية الوطنيّة، وأسهم في تكوين مئات من الأساتذة والمفتشين، واستنقذ من مخالب الضياع أسفارا جليلة من تراث البلد الفقهيّ واللغوي والأدبي.. إلخ.
وبين ثنايا مشاهد حياة الرجل لا يفوتُه أن يوَفِّيَ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه بما يسمح به السياق ممّا لا يُخلُّ بالسرد من صوَرٍ محيطة بالأحداث أو استطراد يستدعيه المقام، أو وفاء لأحبّة ورفقاءَ عرفهم في مسار حياته الحافل؛ ففي رحلة الحجِّ تُشرقُ صفحات الكتاب بعبارات الحبِّ والإجلال والشوق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وطيبته شعرا ونثرا، وفي رحلته الأولى إلى تجكًجه، وما بعدَها صفحات مضيئة من أخبار الجهاد والمقاومة، وكشفٌ لجرائم الاحتلال الفرنسيِّ في حقّ البلَد والناس..
هذا مع إنصافٍ جميل لكلّ من يتناولُه ولو كان من ذوي الخصومة لعشيرته، أو له، وأبرَزُ مثالٍ على ذلك حديث المؤلّف بـ"شفّافيّة" وإفاضةٍ عن الخلاف بينه هو ورفقته إلى المغرب وبين الرئيس المختار، في الموقف من فرنسا قبل 28 نفمبر 1960 وخلافاتهم معه بعد ذلك، وكلّ تلك الأحداث المثيرة، سردها الكاتب بتحرٍّ ظاهرٍ، وعرضَ للأحداث السياسية والمجتمعيَّة التي كان من صانعي تاريخها أو من شهودِها، كمسألة إصلاح التعليم ومشكل "التعريب" وترتيب العلاقة مع فرنسا.. ولم ينس أن يذكُر مآخذ بعض الباحثين عليه في بعض استنتاجاته ودراساته الأدبيّة؛ ليدفعَ عنه الملامَ بلباقة وبحجّةٍ مفهومةٍ.
وشمِل هذا الإنصافُ المستشرقينَ، فكان موقف المؤلِّف منهم ومن أعمالهم متَّزِنا، ومميِّزا بين من خدموا العلمَ والتراث الإسلاميّ بتجرُّدٍ قاد بعضَهم إلى الإسلام، وبين من خاضوا في الثقافة الإسلاميّة لمحاربتها وخدمة الاستعمار والتنصير بذلك.
كما تكشف "رحلة مع الحياة" عن الجانب التزكويّ والروحيّ للدّكتور ولد ابَّاه، وخصوصا بعد دخوله الثاني للسجن في تامشكط وقراره باتّخاذ السجن طريقا إلى الحرّيّة بـ"بداية الهداية" والصلة الدّائمة بكتاب الله وصحيح البخاريّ، وبين الحين والآخر يلتقط القارئ إشاراتٍ بالغةً بذلك، وليس ذلك مستغرَبا على من نشأ في بيئة علميّة وتربوية كحاضرة آل أحمد بيبَه، فسلَّمه الله من لوثات القومية واليساريّة، فكان كما وصف أحد رفاقه بأنّه: "استوعب فكرَ العصر وعلومَه دون أن يفقد صلابةَ الانتماء أو يضيّع بوصلةَ الهوّيّة" وعلى صفحات الكِتاب تتناثرُ أنّاتُ المؤلّف على حال الأمّة، وتصرخُ الآهات على واقع التفرُّق والفشل.
كعادتي في المطالعة كنت متأثّرا ومنفعلا بفصول الكتاب؛ أهَشُّ لنوادر الحكايات، وأتماهى مع حديث الكاتب عن نوادي الرباط ومجالسها الأدبية، وأستسلم للضحك من طرائف الملِك همّام، وتخنقني العبرةُ في بعض المشاهد كلقاء الكاتب الأول بوالدته بعد معاناة قاسيةٍ مع السجن والمرض، كنتُ أتخيَّلُها وهي تردّدُ بصوتٍ خفيٍّ {الحمد لله الذي أذهب عنَّا الحَزَنَ} وأندهشُ لمخاطراته في رحلاته بالطائرة بين النبّاغيّة وانواكشوط، وأتلمَّسُ تأثيرَ ثقافة "إيكًيدي" على المؤلِّف في سرد وقائع بإيجاز، وفي الاكتفاء بالإشارة أحيانا، وفي الإعراض عن ذكر جوانب من الحياة تعوّدنا من كتَّاب المذكِّرات أن "يشغلوا" بها قرّاءَهم.
وأخيرا: يستحقّ د. محمد المختار ولد ابّاه – حفظه الله – على البلاد التي خدَمها معلِّما ومؤسِّسا لأوّل مؤسَّسة أكاديميّة فيها، وواضعا للمقرَّرات والمناهج، ووزيرا للصحة والتعليم، ثمّ مؤسِّسا بعد ذلك للمدرسة العليا للتعليم قائما بأمانة العلم والتعليم، وخدم تراثَها العلميَّ والأدبيّ، ومثَّلها أحسنَ تمثيلٍ في المنظّمات الدولية والمجامع العلمية.. يستحقُّ عليها أن تكرِّمَه تكريما يحتفي بتاريخه وعطاءاته ويُبرِزُ إنتاجَه الثّرّ؛ وفاءً له ولبلائه الحسن، كما كُرِّم بعضُ نُظَرائه في بلدانِهم، وكان من آخر ذلك تكريم جمهوريّة السنغال للدكتور أحمد مختار امبو زميل صاحبنا ورفيق دربِه في مساراتٍ عديدة من حياته.